ردعاً للتطرّف والتعصّب

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ظل ما نشاهده اليوم من أشكال التعصب وعدم التسامح وعدم قبول الآخر، فإن التعليم المفرط في التخصص يخلق مجتمعاً من الأفراد ذوي التفكير الضيق وغير المتسامح، لذا كانت هناك حاجة لإعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية والاجتماعية.

ومن بعض ما تشمله العلوم الإنسانية والاجتماعية الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغة والأدب والفلسفة والاجتماع والعلوم السياسية والإعلامية.

تقوم هذه العلوم بربط الماضي مع الحاضر ودعوتنا للتفكير في حقيقة ما يعنيه أن نكون إنسانيين، واكتشاف الحقيقة الإنسانية وتفحصها نقدياً. إن هذا التفكير يتناقض مع الواقع الفكري لثقافتنا العامة التي تتسم بالتعصب والتفكير الضيق غير المتسامح مما يقود إلى العنف.

لقد كان دور العلوم الإنسانية في التعليم وتأثيره على تكوين شخصية الأفراد مسألة تستحق العناية بها وإيلاءها أهمية قصوى في مناهج الدراسات الجامعية وسط الدور البارز للتخصصات العلمية مثل الطب والهندسة، والعلوم، والتكنولوجيا، والرياضيات التي تتجاهل العلوم الإنسانية والاجتماعية على الرغم من أهميتها لهم ولحياتهم الوظيفية.

ولذلك نجد العديد من الجامعات العربية جعلت من بين متطلبات الحصول على الدرجة الجامعية دراسة مواد من العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولكن هذه المواد التي تدرس تطرح تساؤلات حول مضامينها، هل هي ذات بعد إنساني؟ هل هي تحتوي على تنمية التفكير الناقد؟ هل هي تتيح للطالب فرص الحوار مع الذات ومع الآخرين؟ هل تقدم ثقافة شاملة تمنح الفرصة للاطلاع على ثقافة الآخرين؟

للأسف، إن التوجه العام في المجتمعات العربية بات يهمل دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات العربية لتأخذ العلوم التطبيقية دوراً متقدماً ويتم النظر إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية بنظرة دونية، وهكذا نجد أن الدراسة المتخصصة للغة العربية والفلسفة والمنطق والتاريخ والاجتماع لا نكاد نجد لها موقعاً في العديد من مناهج الجامعات العربية.

وفي كثير من الجامعات بات التدريس باللغة القومية – لغة القرآن الكريم - غير مرغوب فيه حتى في المجالات التي تحتاج اتقاناً للغة العربية مثل تخصصات الإعلام وبعضها يستند في ذلك إلى شروط الاعتماد التي تضعها وزارات التعليم العالي، على الرغم من أن القيادات السياسية تصرح بحرصها على اللغة العربية واستخدامها ورصد الجوائز لتشجيعها على مستوى عربي.

وقد يُفاجَأ البعض أن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - وهو يعتبر عالمياً من أهم مراكز تعليم الهندسة والعلوم والتكنولوجيا والرياضيات - يرى أن العلوم الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية أساسية لتعليم المهندسين والعلماء وللحفاظ على قدرتهم على الابتكار، وتبلغ نسبتها لما يدرسه الطالب فيها أكثر من 25%.

وذلك لأن مهمة المعهد كما جاء في وثائقه هي دفع المعرفة وتثقيف الطلبة الذين هم على استعداد للمساعدة في حل المشاكل الأكثر تحدياً في العالم، في مجال الطاقة، والرعاية الصحية، والنقل، والعديد من المجالات الأخرى.

تهدف التخصصات الإنسانية والاجتماعية إلى إعطاء الطلبة مجموعة أدوات تساعدهم في حياتهم المهنية، إذ يتعلمون حول قضايا فكرية وتاريخية وثقافية وسياسية، ويتعلمون مهارات التفكير النقدي التي تساعدهم على التعاون مع الناس في جميع أنحاء العالم، ويتعلمون مهارات الاتصال التي تمكنهم من التخاطب والاستماع. ويتعلمون أن معظم الحالات الإنسانية ليس لها إجابة صحيحة واحدة، كما لو كانت معادلة في الرياضيات.

نعيش جميعاً في عالم معقد متعدد الثقافات وهو عالم متغير بشكل دائم، وللنجاح في سوق العمل اليوم فالمهندسون والأطباء والعلماء الذين يعملون ضمن فرق متعددة الثقافات ومن جنسيات مختلفة يحتاجون إلى المقدرة على التواصل عبر الثقافات، ويحتاجون إلى مهارات التفكير النقدي ومعرفة تاريخنا وفهم الثقافات الأخرى والقدرة على العمل مع الأرقام والإحصاءات وتفسيرها والوصول إلى رؤى الكتاب والأدباء والفنانين، والانفتاح على التغيير. والكثير من تلك القدرات تأتي من الدراسات الأدبية والفنون والعلوم الاجتماعية.

عالمنا اليوم بحاجة إلى حلول إبداعية للمشاكل التي تأخذ المنظور الإنساني في الاعتبار. ومن خلال العلوم الإنسانية والاجتماعية يمكن أن يطور الطلبة هويات ذاتية متسامحة ومنفتحة ويجدون أنفسهم على صلة بالماضي والحاضر وتمكينهم من تغيير المستقبل.

 

 

Email