حلول أمنية فاشلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لأن الدول الأوروبية، والكبرى منها على وجه الخصوص، فضلت الحلول الأمنية وسياسات المنع والحصار والإغلاق على الحلول والمقاربات الشاملة من مختلف الأوجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد عادت قضية الهجرة غير الشرعية وطالبي اللجوء لتنفجر بقوة مجدداً في وجه دول الاتحاد الأوروبي رغم كثرة البرامج والخطط التي وضعت خلال السنوات الماضية للحد من هذه الظاهرة الخطيرة.

دبت الخلافات بشكل علني بين دول الاتحاد حول تنصل كل منها من تحمل مسؤولياته في التصدي للظاهرة المتفاقمة، بما يؤكد تبني الدول الأوروبية منذ البداية لسياسات أمنية حمائية عقيمة بدلاً من البحث عن حلول سياسية شاملة لمعالجة المشكلة من جذورها مثلما سبقت الإشارة في أكثر من مناسبة، وسط توقعات بعودة مسألة الهجرة غير الشرعية إلى المربع الأول في الأجندة الأوروبية، تزامناً مع إعلان منظمة الهجرة الدولية أن عدد المهاجرين الذين دخلوا أراضي القارة العجوز عبر مياه البحر الأبيض المتوسط منذ بداية العام الجاري تجاوز مائة ألف مهاجر، بينما لقي أكثر من 2200 مهاجر حتفهم غرقاً في مياه المتوسط.

ليس خافياً من حيث المبدأ أن قضية اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين التي انفجرت في وجه أوروبا بقوة في الأعوام القليلة الماضية على وجه الخصوص وتسببت بخلافات أوروبية حادة في كيفية التعامل مع الأزمة كان لها تأثير كبير على تحولات سياسية مهمة شهدتها دول أوروبية ومن بينها «البريكست»، ولكن الأخطر أنها أثارت مخاوف الشعوب الأوروبية بشكل كبير، ما أثار النزعات القومية مجدداً للمطالبة بالحفاظ على الهوية الذاتية.

وعلى ضوء ذلك ليس مستغرباً أن إيطاليا بدأت تجأر بالشكوى إلى حد الصراخ لتحملها العبء الأضخم من تدفقات اللاجئين رغم تراجع أعدادهم عن السابق، ولكن المأساة ذاتها لم تتراجع وغرق الأبرياء لايزال مستمراً، وارتبط بالموقف الإيطالي الجديد أزمة أخرى بإعلان وزير الدفاع النمساوي هانس بيتر دوسكوتسيل أن بلاده تنشر قوات إضافية عند حدودها مع إيطاليا لمنع تدفق موجة جديدة من المهاجرين إلى أراضيها، مؤكداً إنه يجب على إيطاليا اتخاذ إجراءات جديدة ضرورية، آخذة بعين الاعتبار وتائر تفاقم أزمة الهجرة التي تشهدها أوروبا،ولذا فإن نحو 750 عسكرياً نمساوياً سيتوجهون إلى المناطق الحدودية، فضلاً عن حشد آليات عسكرية قرب ممر برينير شرق جبال الألب.

بينما شدد وزير خارجية البلاد سباستيان كورتس على أن فيينا مستعدة لتأمين حدودها مع إيطاليا وحمايتها عند الضرورة، ما دفع وزارة خارجية إيطاليا لاستدعاء سفير النمسا لديها وقدمت له احتجاجاً على هذه التصريحات، ووصف وزير الداخلية الإيطالي ماركو مينيتي قرار فيينا إرسال قوات إضافية إلى ممر برينير بأنه «مبادرة غير مبررة وغير مسبوقة» محذراً من أن هذا الإجراء في حال تطبيقه قد يلحق أضراراً بالتعاون الأمني بين البلدين، معرباً عن استغرابه البالغ إزاء هذه الخطوة في ظل غياب أي وضع طارئ في الممر.

منذ البداية كان البديل الذي تبنته هذه الدول هو إغلاق حدودها في وجه طالبي اللجوء وتجميع من ينجح في عبور الحدود منهم في ما يشبه معسكرات الاعتقال تمهيداً لترحيلهم لدول دخلت معها في صفقات شيطانية لحماية الدول الأوروبية مقابل وقف طوفان اللاجئين إليها، ولم تتوقف الدول الأوروبية عند هذا الحد ولكنها سارعت إلى سن تشريعات وقوانين تحول دون منح اللاجئين أي صفة شرعية للإقامة على أراضيها بل وعدم منحهم الحق في دخول البلاد من الأساس، وبلغت القسوة حد إطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع على طالبي اللجوء في مناطق الحدود وضربهم بالهراوات لتبدأ موجات الترحيل اللا إنساني في الاتجاه المعاكس.

وبذلك واصلت الدول الأوروبية ذاتها سلسلة جرائمها التاريخية في حق شعوب الدول النامية ضاربة بعرض الحائط كل قواعد القانون الدولي والأعراف الإنسانية، وأصبح من الواضح الآن أن الدول الأوروبية عندما تتحدث عن حقوق الإنسان فإنها تعني في المقام الأول المواطن الأوروبي، أما مواطنو العالم الثالث فلا بأس في معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثالثة استمراراً لفكر استعماري متأصل في جذور الممارسات الأوروبية.

السياسات الأوروبية الفاشلة إذاً في التعامل مع تلك الظاهرة كانت هي العنوان الأبرز في هذه الأزمة الكبرى من البداية للنهاية، فقد اعتمدت هذه الدول دوماً في تعاملها مع هذه المأساة، ولاتزال وسائل وأساليب أمنية بدلاً من الحلول الشاملة التي تساعد الدول الطاردة أوالمصدرة للاجئين وللهجرة غير الشرعية على تحقيق معدلات تنمية مرتفعة تهيئ البيئة المناسبة لاستيعاب مواطنيها بشكل أفضل وجعل بلادهم مناطق جاذبة للعمل والمعيشة.

هذه الحقائق مجتمعة تدعونا إلى التأكيد مجدداً على مسؤولية الدول الكبرى والقارة العجوز عن صناعة وتفاقم مآسي اللاجئين وطالبي الهجرة غير الشرعية منها على وجه الخصوص، ومع الاعتراف والتسليم التام بحق الدول في حماية أراضيها وشعوبها من منطلق حق السيادة إلا أنه من المؤكد أيضاً أن الحلول لن تكون ممكنة ولا قريبة إنسانياً وسياسياً لهذه الظاهرة ما دامت الدول الكبرى متمسكة بالمقاربات الأمنية في محاولتها مواجهة هذه المأساة الكبرى، ولذلك تجد نفسها مرة أخرى أمام فصل ساخن جديد من فصول الأزمة التي لن تنتهي إلا بالعودة للحلول الإنسانية الرشيدة.

Email