الدمار من أجل الإعمار

ت + ت - الحجم الطبيعي

مدن ميتة، شوارع فقدت أقدامها، على جنباتها بقع دم بشرية، جثث، سيارات تفحمت، بيوت انهارت جدرانها، بين تلك الجدران كان ثمة دفء عائلي وصور معلقة للجد الذي مات ميتة طبيعية ووجد من يمشي في جنازته. ليس كما ابنه الذي باغتته قذيفة عمياء فأطفأت الحياة في عينيه. أيضاً ليس كما حفيده الذي فقد قدميه فتركته الحرب مقعداً ومضت لتحصد حيوات بشر آخرين.

وراء كل الحروب ثمة تجار حروب. نوع خاص من البشر، فقدوا ضمائرهم أو باعوها بثمن بخس لتحقيق مكاسب مادية خاصة بهم، نظير قيامهم بأعمال وممارسات سياسية أو تجارية غير أخلاقية .

تصدمك مشاهد الدمار في مدن عربية كانت قبل الحرب مواطن حب. وتفكر، لماذا الخراب؟ تأتيك الإجابة فوراً: لإعادة الإعمار. وهل الحروب غير دورة عجلة مسننة تطحن عظم البشر وحديد البناء وتشوه وجه البشرية من قبل أعداء البشرية؟! إن من يهدم مؤسسات الدولة ويقوم بنفس النشاطات الإرهابية، فئة متحصنة بمزية القانون، ويمكن اعتبارهم أهم الأمثلة على الجريمة المنظمة.

من دون التوسع في تسمية تجار الحروب وإدارتهم لشبكة من الجنرالات ورجال الدولة كقتلة أو لصوص. تجار الحرب وبناة الحكومة العميقة ومافيات الفساد هم المقاولون للإعمار بعد عمليات التحرير وصفقات السلاح ومعسكرات التدريب ومشرفين على التعويضات. وكل واحد من هؤلاء يسعى لمصالحه الذاتيّة.

إنه الصراع بين الخير والشر في هذا الكون. فقد أدخلت منظمة بلدان البريكس المكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا نصف سكان العالم في المنظمة التي سخرت نفسها لتحقيق نقطة تحول نحو التنمية والرفاهية لنفسها وللعالم. وقد نجحت المنظمة أخيراً في وضع قوة منظمة وراء الآمال والطموحات التي حلمت بها دول العالم الثالث في إعلان باندونغ لمنظمة عدم الانحياز عام 1977 وهي إخراج العالم من آفة الفقر والاستعمار.

ما يواجه الأمم المنكوبة بالحروب اليوم هي القوى الاستعمارية القديمة التي فقدت كل أمل في نظامها المالي الغربي، مستخدمة الإرهاب وسياسة تغيير الأنظمة السياسية. وما يمكنه إيقاف سياسة الحرب جذرياً هو إيجاد حل للأزمة المالية، وذلك عبر سياسة إصلاح للبنوك والبدء بإعادة تشغيل الاقتصاد الفعلي للأمم الغربية ذاتها. هذه المقترحات يطرحها السياسي الأميركي وعالم الاقتصاد ليندون لاروش وزوجته هيلغا لاروش ومعهد شيللر العالمي الذي تترأسه. لقد بدأ العديد من السياسيين الغربيين بالتحرك لدعم هذه المقترحات لحل الأزمة المالية. أما الأمل الأكبر للعالم فهو الدفعة الكبرى التي تقدمها دول مجموعة البريكس لتحقيق نقلة نوعية جديدة في التنمية العالمية. إن هذه القوى لا تزال قادرة إذا تآزرت لتحويل مجرى السياسة الأوروبية والأميركية بعيداً عن الحرب. إن ما يجري صراع عسكري واقتصادي في آن واحد.

وهنا، مقاومة الحرب والدمار توحد شعوب العالم جميعها في استعادة الأمل والنضال من أجل نظام اقتصادي عالمي عادل وجديد.

يرى لاروش أنه لأجل وقف الحرب المدمرة في سوريا والعراق وليبيا، لا بد من أن تذعن أوروبا والولايات المتحدة للحاجة الملحة للتعاون مع دول البريكس حول هذه البرامج الإنمائية. بهذه الطريقة ستتمكن الدول الغربية ذاتها من البدء بإعادة بناء اقتصاداتها المأزومة نفسها، بدلاً من الوقوع في فخ الحروب الإقليمية والعالمية والانهيار الاقتصادي التام بسبب إفلاس النظام المالي والمصرفي الغربي. إن هذه الخطة ليست مجرد مساعدة من الخارج لدول المنطقة، بل هي عملية نوعية لإحداث نقلة نوعية في طبيعة النظام العالمي الاقتصادي والسياسي على حد سواء، بحيث تستفيد جميع الأطراف كما عبر عن ذلك الرئيس الصيني شي جينبينج بوصفه برنامج «حزام واحد، طريق واحد» بقوله إنه يمثل سياسة «رابح ـ رابح»، حيث تستفيد جميع الأطراف من التعاون، وبخلافه تخسر بسبب التنازع.

يحتاج الفلاح أو المقاول إلى ائتمان (قرض) من شخص آخر أو جهة أخرى ليحول إمكانياته الكامنة إلى فعلية. بمقدور أمة حرة أن تقرر بنفسها أن تجعل قدراتها الكامنة أمراً واقعاً. يتم ذلك حينما تقرر الأمة أن تمنح نفسها حقاً ائتمانياً، مستخدمة قدراتها الإنتاجية المستقبلية كضمان لذلك الائتمان (القرض). لإنجاز ذلك يجب تأسيس نظام مالي، يسمى «النظام الائتماني».

تكمن المفارقة التاريخية هنا في أن مثل هذا «النظام الائتماني» هو الذي جعل تأسيس الولايات المتحدة كأمة موحدة ممكناً وساعدها على البقاء في السنين الأولى بعد تأسيسها.

تمت بعد ذلك الاستفادة منه في ألمانيا الغربية وكوريا الجنوبية لتمويل معجزة إعادة إعمار اقتصاديهما المدمرين بعد الحرب العالمية الثانية. إن الولايات المتحدة الأميركية تنهار اقتصادياً اليوم لأنها هجرت ذلك النظام الناجح (بعد اغتيال الرئيس جون كيندي)، وهي تحاول الآن أن تمنع دول البريكس من استخدامه.

Email