هوامش على دفتر الصحافة القومية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرة أخرى أقدم التهاني للزملاء الذين أصبحوا في قيادة الصحافة «القومية» في البلاد؛ وأيضا للزملاء في المجالس الوطنية العليا الذين بات على عاتقهم مهمة الإشراف والإدارة للمؤسسات الصحفية التابعة بالملكية للدولة المصرية.

ببساطة لقد اكتملت المنظومة الدستورية الخاصة بالعمل الصحفي وأصبح السؤال المطروح هو ماذا نحن فاعلون بها خاصة وأنها من حيث «الحجم» وعدد العاملين والأصول والتأثير تشكل واقعا في الصحافة والإعلام يماثل ذلك الذي تشغله البنوك العامة في المنظومة البنكية والمالية المصرية، أو شركات التأمين «القومية» في المنظومة التأمينية للدولة؟

الفوارق بين كل ذلك محفوظة وربما ليس أكثرها أهمية مدى المكسب أو الخسارة، وإنما المدى الذي وصلته كل منظومة من هذه المنظومات العامة في الإصلاح المالي والإداري والتنظيمي بحيث باتت هناك منظومة موجودة بالفعل تشكل العلاقات بين العام والخاص، وبين المؤسسات وبقية مؤسسات الدولة، وبين كل هؤلاء والعالم الخارجي.

وفي الحالة الصحفية فإن الإصلاح بشأنها بات من الضرورات القومية، وهو الأمر الذي يتطلب حواراً واسعاً داخل المنظومة كلها، وداخل كل مؤسسة على حدة، ونقطة الانطلاق هي أن الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه؛ ليس فقط بسبب تراجع الحالة المالية للمؤسسات واعتمادها المتزايد على موازنة الدولة، وإنما أيضا، تراجع التأثير بسبب المنافسة مع مؤسسات خاصة من ناحية، والأهم المنافسة مع منصات أخرى غير ورقية ومطبوعة.

الإشكالية الكبرى في تحرير الموضوع هي تحديد الهدف القومي من وجود المؤسسات الصحفية، والكيفية التي يتم بها تحديد مدى النجاح في تحقيق هذا الهدف أو الأهداف؟ وبصراحة فإن من شارك في مجالس إدارات الصحف القومية، واجهته قضية عما إذا كانت المنظومة كلها ذات طبيعة اقتصادية أو أنها ذات طبيعة خدمية.

وببساطة هل هي مثل الشركات العامة والبنوك والتأمين وكلها تقدم خدمات أو منتجات، وفي كل الأحوال ينظر لها من خلال المنفعة والمكسب والخسارة؟ أو أنها خدمة مثل التعليم والصحة والثقافة التي على الدولة أن تقدمها لمواطنيها، وأن تستخدمها في الدفاع عن المصالح والقيم الوطنية العليا للدولة.

الحالة الأولى تتناقض مع الواقع حيث تواجه المؤسسات صعوبات جمة في تحقيق التوازن الاقتصادي للمؤسسات على ضوء ظروف موضوعية وتتعلق بالسوق الحالية للصحافة.

والحالة الثانية تتناقض مع الطبيعة المهنية الصحفية ذاتها التي تفترض الاستقلال عن السلطة السياسية للدولة وهو ما أعطاها يوما ما اسم «السلطة الرابعة» التي يقع عليها مهمة إنارة الطريق أمام السلطات الأخرى والمواطنين أيضا. وفي حالتنا فإن الدستور كفل حرية الصحافة واستقلالها، ولكن ما بقي معلقا هو كيف يكون الاستقلال بينما لا تستطيع الصحف تمويل نفسها؟

الإشكالية الأخرى والتي لا تقل أهمية، أنه لا توجد مرجعية دولية للحالة المصرية يمكن القياس عليها، ففي حالة البنوك على سبيل المثال فإنه يمكن الرجوع دوما لما يسمى «قواعد بازل» التي يمكن تكييفها حسب الواقع الموجود في كل دولة؛ وفي أمور أخرى تكون المرجعية اتفاقيات دولية أو قانون دولي أو اتفاق خاص مع صندوق النقد الدولي على سبيل المثال.

في الصحافة فإنه توجد قواعد عامة لها علاقة بالمهنة، وتنظيم العلاقة ما بين الإدارة والتحرير، وما بين الحريات العامة والأخرى الخاصة؛ ولكن في الحالة المصرية فإن أموراً كثيرة ملتبسة ما بين الصحافة والمؤسسات العامة المنظمة لها، وما بين الصحافة والإعلام بشكل عام، وبين كلاهما والنقابات المنظمة للمهنة. الحالة المصرية فيما أعلم فريدة، وجديدة، وسوف تحتاج جهداً كبير لوضعها في منظومة متسقة مع ذاتها.

الإشكالية الثالثة أن المؤسسات الصحفية ليست متماثلة مع بعضها البعض لا من حيث الحجم ولا من حيث الحالة الراهنة؛ فهناك مؤسستان فقط فيهما قدر لا بأس به من المناعة الاقتصادية بحيث أنهما يعتمدان في القدر الأكبر من الإنفاق على مواردهما الذاتية، ولديهما مكونات إعلانية وتوزيعية وطباعيه تجارية؛ وبشكل ما فإنهما يمثلان شركات اقتصادية متكاملة الأركان، ولكنها تمر بفترة من عدم التوازن الاقتصادي الذي تتدخل الدولة لتصحيحه.

باقي المؤسسات الصحفية سقطت مناعتها الاقتصادية منذ وقت طويل بحيث باتت تعتمد اعتماداً كلياً في تشغيلها وأجور العاملين فيها على الدولة، ولم تكن هذه الحالة وليدة مرحلة ما بعد الثورات، وإنما هي حالة سابقة عليها.

علاج هذه الإشكالية ربما يكون ممكنا بحزمة من الإصلاحات الاقتصادية تستفيد من الأصول الكثيرة للمؤسستين الأوليين، والصحفية التي تحولها إلى مؤسسات إعلامية متكاملة الأركان، وفي الحالتين تعيد التوازن الاقتصادي والمهني لكليهما.

باقي المؤسسات يمكن دمجها في مؤسسة إعلامية واحدة كبرى تضم أفضل ما في هذه المؤسسات من مطبوعات وأصول بحيث يكون للدولة المصرية في النهاية ثلاث مؤسسات إعلامية كبرى ومؤثرة في الداخل والخارج.

مثل هذه التجربة حدثت من قبل عندما جرى دمج شركات التأمين المصرية العامة في شركة واحدة عملاقة هي شركة مصر للتأمين باتت لها القدرة على المنافسة وإدارة الأصول الخاصة بها.

الإشكالية الأخيرة ربما تكون الأكثر تعقيدا من كل ما سبق لأنها تتعلق بالمنظومة الصحفية كلها، العام منها والخاص، فرغم أن الدولة مشغولة ومعنية بالمؤسسات الصحفية العامة، فإن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أنها جزء من منظومة أكبر تشمل ليس فقط ما هو خاص، بل أيضاً ما هو دولي وعالمي. المهمة في النهاية ثقيلة وتحتاج الكثير من التفكير.

 

 

Email