تكريس العنف

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصبحت وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي الوجه الآخر لحياتنا أو قل الوجه الملازم لها صغاراً وكباراً بمختلف الثقافات والمستويات التعليمية، ولاشك أنها أصبحت مصدراً أساسياً للحصول على المعلومة والاطلاع على ما يدور حولنا من أحداث وحوادث، حتى بات العالم بين يديك وأمام ناظريك.

وهذا بالطبع ساعد في تضييق المدى المعرفي والثقافي بين مختلف الشعوب بما يتم بثه من أخبار ومشاهد، للدرجة التي أصبحت معها هذه الوسائل لها دور فاعل في التكوين المعرفي والتشكيل الثقافي لجمهورها وبخاصة بين الشباب.

وبالنظر إلى كلفة التعامل معها مادياً التي تقل يوماً بعد يوم ما يجعلها تتجه دائما نحو الاستخدام الشعبوي المتكاثر، وهو الأمر الذي يجعلنا نتوقف كثيراً حيال بعض المضامين التي باتت مألوفة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة الجرائم التي يتم ارتكابها سواء من قبل جماعات مسلحة أو عصابات منظمة أو أفراد، بحيث باتت مألوفة للمتصفح.

كما أنها دائما تغري بمتابعتها للدرجة التي بات لها صفحات يمكن الذهاب إليها ومشاهدة عشرات المقاطع المصورة لجرائم من القتل والسرقة والعنف، ساعد على ذلك الكاميرات المثبتة في العديد من الأماكن في كثير من دول العالم، في البنوك والمحال التجارية والشوارع العامة وغيرها، وعلى الرغم من أهمية ذلك إلا أن خطورة بث تلك المقاطع، سواء لسرقات أو عمليات سطو مسلح أو اعتداء بدني أو محاولات اغتصاب، تأتي من عدة جوانب.

إن الجرائم التي ترتكب مثل السطو على المحال التجارية في مختلف أنحاء العالم وبخاصة محال المجوهرات أو غيرها يتم بثها كاملة منذ اللحظات الأولى التي دخل فيها اللصوص، وبدء الحديث مع صاحب المتجر، ثم كيف يقومون بتوزيع أدوارهم فيما بينهم وأماكن وقوف كل منهم.

ثم يبلغ المشهد الدامي ذروته حين يشهرون أسلحتهم في وجه الضحية أو الضحايا، الذين تشلهم الصدمة ويعجز معظمهم في الغالب عن القيام بالفعل فما يكون منه غير الاستسلام أو التسليم، وإذا كان له نصيب من المقاومة والتي تكون حيلة الأعزل، التي لا تفلح أمام الأسلحة البيضاء أو النارية، فتكون النهاية في غالبها مشهداً لا تتحمله النفس من دم وقتل، هذا هو الوجه الأول للمشهد الدامي والقاسي.

غير أن الوجه الآخر له أن عرض تلك الجرائم بهذه التفاصيل الواضحة قد يكون باباً واسعاً لزيادة معدلات الجريمة، لأنها قد تدفع غيرهم من المراهقين والموتورين وضعاف النفوس والجهلة لتقليدهم.

وبخاصة أن كثيراً من هذه الجرائم يفلت القائمون بها بجريمتهم من أمام الكاميرات بعد أن يكونوا قد نالوا مرادهم وانتهت مهمتهم بما أرادوا، وقد تكون الشرطة أوقعت بهم ونالوا عقوبتهم غير أن الكثيرين لا يصل إليهم ذلك، أو قد لا يعرض، فيظل المشهد الأول باقياً.

فضلاً عن ذلك فإن نشر تلك المقاطع بهذه الكثافة بفقد المتابع الإحساس بخطورتها، وقد تجعله يتابعها باعتبارها قصة وليست جريمة يألفها بعد فترة لتصبح أمراً معتاداً، وتلك خطورة أخرى باعتبار أن وسائل التواصل الاجتماعي تتعامل مع واقع افتراضي.

وهذا النمط من التعامل هو الذي يدفع بالبعض عند مصادفة حالة حرجة أو موقف يقتضي منه مساعدة غيره والقيام بدور إيجابي قد يكتفى بتصويره ليضعه على صفحته أو ينشره بين أصدقائه لتحقيق أكبر قدر من المتابعة والمشاركة، وهذا تغير في نمط السلوك والقيم الإنسانية يستحق التوقف والنظر.

على الجانب الآخر فإن نشر هذه المقاطع لا يتوقف على نمط واحد من الجرائم أو الاعتداء لكنه يقدم طرقاً وأشكالاً جديدة للجرائم، ويستعرض حيل سحب الأموال من ماكينات الصرافة، وفتح أبواب السيارات المغلقة أو سرقة محتوياتها، أو حتى سرقة الأشخاص ولو كانوا بين الناس وفي وضح النهار.

من ناحية أخرى فإن لهذه المقاطع تأثيرات نفسية مرضية بلا شك على من يتعرضون لها وبخاصة الأطفال أو من تعرض لها بغير عمد، كالشعور الدائم بالقلق، وعدم الأمان، والريبة، وهو الأمر الذي ينعكس على قدراته فيما يقوم به من أعمال ويعوقه عن الإبداع، فضلا عن كونه إنساناً منتجاً يملك نفسية سليمة يتعامل مع غيره بسوية.

ولا شك أن إشاعة أنماط العنف في المجتمعات يغري بتقليدها في العديد من السلوكيات، وهو الأمر الذي نشاهده حتى في البرامج الكوميدية، وإلا فما هو الشيء المضحك في أن يدفع شخص بآخر إلى البحر، أو حرقه بالنار، أو رميه بفطيرة الكيك في وجهه، ما هو وجه المتعة في ذلك، إلا أنه كاد يصبح نمطاً شائعاً في العالم حتى لو كان من باب الإضحاك.

لقد بات من الأهمية بمكان منع وتجريم تلك النوعية من المقاطع التي تبث الرعب والقلق بين المجتمعات وما تحدثه من آثار ليس على الأجيال الحالية فحسب لكن أثرها سيكون أكبر وأشد على القادم من الأجيال.

 

 

Email