كُنّا معهم

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أمر على تلك الحكمة القديمة بأنّ «البعض يخلق السعادة حيثما يرحل والبعض يخلقها عندما يرحل»، وأحاول إسقاطها على واقع البشر فيتعذَّرُ عليّ ذلك، لم أكن أجد ترجماناً حقيقياً لها على كثرة أقنعة البشر وسرعة تغيّر أمزجتهم وتبدّل شخصياتهم وفقاً لتغيّر مصالحهم، لم أشعر بمعناها حقاً حتى حطّت بنا الرحال ليلة العيد في الحد الجنوبي.

تحرّكنا بعد صلاة العيد باتّجاه «صانعي السعادة» وصائني المجد وحُماة الأوطان، كان العيد هذا العام مختلفاً بالنسبة لي ولرفاقي في تلك الزيارة السريعة، كان عيدنا فعلاً رؤية أبنائنا وإخواننا من أبطال قواتنا المسلحة المرابطة في الحد الجنوبي، كان العيد جميلاً كجميل فعالهم، نقياً كنقاء أرواحهم، بشوشاً كبشاشة وجوههم وهم يبادلوننا التهنئة بالعيد، غَبَطْتُهم.

وأنا أمشي ورفاقي بـ«كنادير» العيد وهم يرتدون ثياب الرجال ويرفلون بألوان الأبطال ويزيّن أكتافهم علم الوطن الغالي، الوطن الذي من أجله وأجل حماية مَن به وما به تركوا ديارهم وأهلهم، فسطّروا المآثر وخلّدوا بيض الوقائع، فنصروا الشقيق الضعيف، وأنجدوا البائس المستغيث، وأركسوا الصائل الغادر، وكتموا أنفاس الشر قبل أن تحرق كامل جزيرة العرب.

ما لاحظته ولاحظه رفاقي أنّ الابتسامة لا تفارق وجوههم، ابتسامة صدق لا تصنّع من أجل فلاشات كاميرات أو تجمّع مصطنع، كانت هناك روحٌ من نوعٍ مختلف يشعر بها كل من يدخل تلك المعسكرات، روح عزّةٍ وأنَفَةٍ تجعلك تريد أن تستأذنك حتى الشمس قبل أن تغيب، وكلما سألتهم عن أحوالهم يأتيك الرد بلهجةٍ واثقة ومعنويات عالية وعينان تلمعان تحدياً وشجاعة: «نبشّركم أمورنا فوق الطيبة والله يجمّلنا في بلادنا وأهلنا ومعازيبنا».

لا خوف على الوطن وعنده مثل هؤلاء الأسود، فهم بعد الله ردؤه ورداؤه، وهم حصنه الحصين وحصانته، وهم قلعته الشمّاء وحسامه، لم تُعلّمهم الميزة على غيرهم قاعاتُ الدراسة ولكن علّمتهم ساحات المعارك، ولم تُنضجهم الخطابيات المعتادة ولكن صقلتهم ميادين الشرف والبطولات.

كنتُ منبهراً ولا تسعني الأرض من فرحي بهم وغبطتي عليهم عندما كانوا يتحدثون بتلك اللغة العلمية العميقة عن تقنيات أسلحتهم الفائقة من مقاتلات وطائرات رصد وطائرات درون وغرف عمليات متقدمة، كان الشرح مبهراً والأرقام التي سُمِح لنا بالاطلاع عليها تجعلك تنام قرير العين لألف سنةٍ قادمة بإذن الله لكفاءة هذه القوات ونجاعة عملياتها وأدائها الاستثنائي الذي تدعمه الأرقام والإحصائيات.

لم يكذب مَن قال بأنّ «الحياة تتسع أو تنكمش وفقاً لشجاعة الإنسان»، هناك وجدنا الشجاعة التي جُبِلَ عليها أبناء زايد، طيّب الله ثراه، لكنّنا فوق ذلك وجدنا الـمُمكِّنات والتسهيلات الكبيرة التي وفرتها القيادة لهؤلاء الأبطال مع شكرنا لأحبتنا في المملكة العربية السعودية على دورهم المقدَّر، تهيئة الأجواء الملائمة لأبطالنا هناك من حيث اكتمال المرافق إنشائياً وتقنياً وعلوّ قدرات الترسانة الحربية وتأمين المعسكرات كانت أولوية للقيادة الرشيدة لتوفير سبل النجاح ورفع مستويات الأمان والحماية لهم لأقصى درجة، وبأمانة فإننا لم نجدهم في حاجة لتشجيع إطلاقاً، فقد كانوا براكين متحركة من الحماس والرغبة في تأدية مهمتهم حتى يتم تطهير آخر شبر على أراضي الأشقاء اليمنيين من أيادي الغدر.

ربما لم يكن الجميع يعرف حقيقة قيمة هؤلاء الأبطال حتى أتت هذه الأحداث السيئة فأبانوا عن جودة معدنهم ورفيع قدرهم، تماماً كالنجوم التي لن يلحظها الناس ولن يروا شُعاها الأخّاذ في صدر السماء إلّا في جوف الظلام الدامس، هم أولئك الجديرون بمن قال بهم:

ونِحْن مِن نِرْدَع ونمنع بالسليل

يوم قوّات الـمُعـــــادي.. يزحفن

هم أولئك الذين أشعلوا ساحات المعارك جحيماً لا تُبقي ولا تذر أمام صعاليك عفّاش وأذناب طهران من صعاليك الحوثيين وخوارج العصر القاعديين منهم والدواعش وربيبة التخريب الكبرى جماعة الإخوان، فجعلتهم يُعيدون حساباتهم وهم يصفقون أيادي الحسرة لنسف مخططات الغدر والخيانة بأيادي «إخوان شمّا» و«إخوان نورة» بعد عون الله تعالى وتأييده، لذا:

وكل مِن هو عال ما فكّر يعيل

مرةٍ أُخْرى... وتراجع بالوَهَــــن

نحن «زَبْن» اللائذ بعد الله بنا، ونحن نصيرُ المظلوم ونَجدةُ المستغيث، ونحن سُمَّ العِدا و«ميسم» الغادر، مَن أتانا بالطيب فلن يجد للطيب من عنوانٍ سوانا، وإنْ أتى بخلاف ذلك فليبشر بيومٍ أسود لن ينساه طيلة حياته:

ونِحْن من نلجي ونَعْدِل كل ميل

بالسيوف الحِـدْب ونْطَفّي الفتن

وإنْ صفينا مثل ذوق السلسبيل

لا نخون.. ولا نكون إلا رُكن

هكذا لخّصها في هذه الأبيات الرائعة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان: «لا نخون.. ولا نكون إلا.. ركن»، فنحن شعب لم يُجبَل إلا على كريم الخصال، ولم نُفطَم إلا على رفيع الأخلاق، لا نعرف الخيانة ولا نقبل صاحبها ولا نتقبّله كائناً من كان.

فنحن لا نرضى لأنفسنا إلا كما أرادنا والدنا زايد، عليه رحمة الله تعالى، أن نكون وكما لخّصها بو خالد رعاه الله «لا نكون إلا ركن»، ركناً للعزّة، ركناً للمجد، ركناً للإنسانية، ركناً للتقدم، والأهم من ذلك أننا ركنٌ للخير، ذلك الخير الذي يجعلنا نبعث فلذات أكبادنا وخيرة شبابنا ليضعوا في فم الظلام والغدر فوّهة بندقية لا تعرف إلا الصفوف الأمامية!

 

 

Email