أفكار بشأن الصحافة اليوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

في البداية فإن التهنئة واجبة لكل الزملاء الذين بات عليهم مهمة قيادة الصحافة «القومية» خلال المرحلة المقبلة ما بين رؤساء لتحرير صحف ومجلات ودوريات من نوعيات مختلفة، ورؤساء لمجالس الإدارة. أعرف أن الفرح والنشوة بهذه المناصب لم تعد كما كانت حينما يجد المرء أن مستقبله الصحافي في المكانة والمقعد الذي جلس عليه يوماً محمد حسنين هيكل أو علي ومصطفى أمين أو بطرس بطرس غالي أو إحسان عبد القدوس، وغيرهم من أصحاب القامات العالية في التاريخ المصري.

الآن فإن الشعور لابد وأن ينتابه الكثير من الوجل لأن صناعة الصحف انتابتها الكثير من المخاطر والشائع أنها في طريقها إلى زوال، كما أن الذائع هو أن الصحافة القومية كلها دخلت منذ بداية عهد الثورات إلي منعطف الديون والحاجة؛ ومهما كان الكرم الحكومي حاتمياً، وهو ليس دائماً كذلك، فلابد أن لحظة الحقيقة سوف تأتي، ومواجهة الواقع سوف تصير حتمية. ولكن أياً ما كان ذلك مزعجاً أو مقلقاً في لحظة مهمة، فإن الواجب الوطني يقتضي الدخول في المهمة التي لابد من القيام بها.

لقد قضيت أربعين عاماً من العمل في الصحافة المصرية كان منها سبعة وثلاثون في مؤسسة الأهرام باحثاً وصحافياً وكاتباً ومديراً لمركز بحوث ورئيساً لمجلس الإدارة، وثلاث سنوات في مؤسسة المصري اليوم الغراء «القومية» التوجه والمقصد، أما الملكية فهذه قصة أخرى.

ما يهمنا هنا تلك المجموعة من المؤسسات الكبرى التي لا تزال تحمل العبء الأكبر للصحافة المصرية، وفيها يوجد العدد الأكبر من الصحافيين، ومنها تكون الإشارة حول توجه الدولة المصرية سواء للمواطنين أو للعالم الخارجي.

العبء العظيم هنا أن الصحف القومية أمامها تحدي حمل رسالة قد تكون غامضة أو ملتبسة أو مرتبكة أحياناً أو أنها متناقضة مع تفاصيلها؛ وببساطة قد تختلط الأمور لدى مُستقبل الرسالة بين الرسالة وحاملها. هذه إشكالية جرت دائماً في الصحف «القومية» حينما يقع عليها اللوم مع باقي الصحف وأحياناً الإعلام كله عن سوء التعامل مع رسائل تبدو واضحة لمن يرسلها ولكنها ليست كذلك عند قراءتها.

ولكن هذه ليست الإشكالية الوحيدة الواجب حل ألغازها، فهناك إشكالية أخرى لا تقل أهمية وهي ما أشرت إليه من قبل في هذا المقام عن «الصحافة والصحف»، فبينما تزداد الحاجة والطلب على الأولى، فإنها ليست كذلك في الواقع.

أعلم أن الشائع في المؤسسات الصحافية «القومية» أن الصحف باقية وأن الحديث عن تراجعها هو محض خيال أو أنها نتيجة فشل مؤقت، وأن في الواقع شهادات على قوة الصحافة المطبوعة بل على تزايد قوتها. أياً كانت البراهين المقدمة، فالثابت أن توزيع الصحف المصرية جميعاً تراجع من 3.5 ملايين في عام 2000 إلى 350 ألف نسخة الآن، أي حوالي 10 في المئة من التوزيع السابق

. مثل هذا التراجع الكبير، وهناك ما هو أكبر منه في المجلات والدوريات المختلفة، لا يمكن أن يعزى للحالة الاقتصادية، أو أنه بسبب ضعف عادة القراءة لدى الأجيال الجديدة. فالثابت رغم كل شيء أن عادة القراءة تتزايد بين البشر عامة، والمصريين منهم، ولكن ليس للصحف بالضرورة؛ بل أن الطباعة أيضاً تتزايد وكل ما هنالك هو أنها انتقلت من مقاس الصحف المطبوعة إلى الطباعة الفردية على أوراق A4.

ولكن الثابت على الجانب الآخر هو أن الحاجة متزايدة إلى المحتوى، والتناسب ما بين المحتوى والأدوات الصحافية المختلفة سواء أكانت رقمية أم تلفزيونية أم تليفونية، مسموعة أم مقروءة أم مرئية. مثل ذلك قد يجعل الصحافة أكثر تعقيداً عما كان عليه الحال من قبل.

والواقع، أن البحث عن طريق يمر بالتجربة العالمية التي باتت متراكمة في هذا الشأن، وكلها شائع ومعروف، وما يقف أمامها في الحالة المصرية الوجل من الجديد والخوف منه، والتسلح في وجهه بالتقاليد، واعتبار الخروج على ما هو سائد خطيئة ومعصية. وثانياً أن المؤسسات القومية في جوهرها غنية ليس فقط بالأصول الكثيرة، وإنما أيضاً بالكوادر والقدرات البشرية خاصة بين الشباب.

الشجاعة هنا مطلوبة أيضاً لأن نظام الأقدمية مسيطر ومهيمن بحيث يضطر الموهوبون إلى العمل خارج النظام لأنه ليس بوسعهم الانتظار في طابور لا يعرفون متى يتيح لقدراتهم التعبير عنها. وثالثاً أنه لا مفر، وحتى في مؤسسات عامة، من العمل وفق معايير اقتصادية، فلا يجب أن ننسى أن الاستمرار ليس قدراً لما ليس فيه فائدة، ولا معنى لوجود مطبوعة لا يقرأها أحد.

ورابعاً أن القدرة المحدودة للدولة في تقديم العون المستمر قد يدفع في اتجاه تحويل المؤسسات إلى شركات قابضة تجذب رأس المال إلى مؤسسات ناجحة اقتصادياً. وكما قال شيخ جليل، هذا كلامنا، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه، ومن قال لا أدري فقد أفتى!

 

 

Email