من صرخ قبل من؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيمر بعض الوقت قبل التعرف على تفاصيل الاتفاق؛ الذى تم بمقتضاه التعامل مع إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل عن الطعام لمدة أربعين يوماً (17/4 - 27/5/2017).

ظاهر الحال يوحي بأن ما جرى ينطوي على شيء من الضبابية وعدم الوضوح. الفلسطينيون يقولون إن الاتفاق أدى إلى تعليق الإضراب، فيما يؤكد الإسرائيليون أنه أنهى الإضراب. ولأن هناك فرقاً بين مفهومي التعليق والإنهاء؛ فإن المعنى الأقرب إلى الذهن هو أن الجانب الإسرائيلي استجاب لبعض وليس لكل مطالب الأسرى؛ معتبراً ذلك نهاية المطاف، وأن الأخيرين ربما توقفوا مؤقتاً، واعدين السجان بجولة أخرى من المنازلة في وقت لاحق.

مطالب الأسرى جميعها كانت من طبيعة خدمية وتتعلق بحاجات إنسانية بحتة؛ وتتسق عموماً مع أوليات حقوق الأسرى والمعتقلين السياسيين والأمنيين المكفولة بالقوانين الدولية ذات الصلة، وفي طليعتها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949. لم يثر الأسرى أي مطلب سياسي.. لم ينادوا بإطلاق سراحهم أو بإعادة محاكمتهم مع توفير ضمانات دولية محايدة، ولا طالبوا بإلزام إسرائيل بتنفيذ ما وافقت عليه في آخر جولة تفاوضية لها مع الجانب الفلسطيني، وهو تحرير مجموعة من قدامى الأسرى جرى تحديدهم بالاسم.

ترى ما الذي منع صانع القرار الإسرائيلي من الاستجابة لهذه المطالب المتواضعة؛ وجعله يستعيض عن ذلك بتشديد التنكيل بالأسرى واستخدام أقسى الأساليب العقابية بحقهم؟! لماذا لم يلجأ الإسرائيليون إلى التعامل المرن مع موقف، ينطوي في الحد الأدنى على إلحاق أذى بالغ بصورة دولتهم في جهات المعمورة الأربع؟! نفهم أن بعض الأحداث المزامنة للإضراب على الصعيدين الإقليمي والدولي، كأجواء القمة الأميركية العربية الإسلامية، ربما ساهم لفت الأنظار والاهتمامات بعيداً عن سياق الإضراب والمضربين، وهذا أغرى قطاعات إسرائيلية بالإشاحة عن الإضراب والتظاهر بأنه حدث قابل للتجاوز والإهمال، وإعطاء درس للمعنيين الفلسطينيين وسواهم بأن «الإضراب لا يفيد».

هذا فهم عقلاني مقبول؛ لكنه لا يبدو كافياً لتفسير الإيغال الإسرائيلي في التعامل الإجرامي مع المضربين، ورفض تلبية مطالب سبق أن توفرت لهم وجرى طيها وتجاوزها لاحقاً.

التفسير الأكثر منطقية يتصل بمحاولة تطبيق عقيدة التفاوض الإسرائيلية العامة مع الفلسطينيين على قضية الأسرى وإضرابهم. فمن ثوابت هذه العقيدة التعامل مع كل استحقاق يثيره الجانب الفلسطيني، صغر مقامه أم كبر، بصرامة فائضة وكأنه مسألة حياة أو موت لا ينبغي إبداء المرونة والتساهل عند معالجتها.

بصيغة أخرى، يهتم الإسرائيليون بكل صيحة فلسطينية عليهم، ويصلونها تلقائياً بقضايا الأمن القومي واستراتيجية الإبقاء على الكلمة الأخيرة واليد العليا لهم وحدهم.. في هذا الإطار لا تنشغل إسرائيل كثيراً بعذابات الفلسطينيين ولا تعبأ بصورتها لدى عوالم الآخرين، ولا يصعب عليها إلقاء الرؤى الحقوقية والإنسانية والأخلاقية خلف ظهرها.

تأسيساً على هذه التعميمات، يدرك الإسرائيليون أن الانصياع لمطالب الأسرى قد يؤدى إلى تحسين صورة دولتهم؛ لكنه يعنى انكسار إرادتها في المعركة التي أسماها الفلسطينيون «معركة الحرية والكرامة» وحددوا ميدانها وزمانها وأسلحتها.

هناك قناعة إسرائيلية بأنه لا ينبغي للفلسطينيين أن يخرجوا ظافرين في أي مكاسرة أو مغالبة تدور معهم، بغض النظر عن حجمها وموضوعها، وأن أي خطوة يخطونها للأمام يجب ألا تأتي بلي الذراع.. فالتنازل في أي جزئية قد يستتبعه التنازل في جزئيات أخرى.

والواقع أن هذا هو دأب كل الذين يعلون شأن القوة على الحق. ولو كان الأمر على غير هذه الشاكلة، لكانت القضية الفلسطينية بقضها وقضيضها قد حلت وتمت تسويتها منذ عقود.. فكل صغيرة وكبيرة في هذه القضية لها أصل وفصل حقوقي في القانون الدولي، وصدرت لها أحكام وقرارات عن المحافل الحقوقية والقضائية ذات الصلة.

إسرائيل قاربت إضراب الأسرى بمنطق الاستقواء و«البلطة».. منطق الذين يخافون ولا يستحون.. ولا شك في أن صمود المضربين في وجه هذا المنطق والتجمل طويلاً بالصبر والجلد في معركة عض الأصابع، حقيقة تثير التأمل الممزوج بالإعجاب، بغض النظر عما تحقق لهم أو لم يتحقق من مطالب.

Email