إحياء مدرسة صحافة الرأي

ت + ت - الحجم الطبيعي

دون سابق إنذار أو تمهيد فوجئت، كما فوجئ غيرى من قراء جريدة «المقال» اليومية، التي تصدر في القاهرة بمانشتات زاعقة تنبههم إلى أن العدد الذي بين أيديهم- وهو العدد رقم 854 الذي صدر في 11 يونيو 2017- هو العدد اليومي الأخير منها، وأنها ستصدر أسبوعياً، اعتباراً من العدد الذي يصدر منها يوم الثلاثاء 20 يونيو الحالي.

وذات يوم منذ أكثر من عامين، اتصل بي الصحافي والروائي اللامع إبراهيم عيسى هاتفياً، ليخطرني -وكنت آنذاك أميناً عاماً للمجلس الأعلى للصحافة، بأنه تقدم للمجلس، في اليوم نفسه، بالمستندات القانونية، لإصدار صحيفة يومية باسم «المقال»، يمتلكها ويرأس تحريرها، معبراً عن أمله في أن ينهى المجلس الإجراءات التي يتطلبها ذلك، حتى تتمكن الجريدة من الصدور في الموعد الذي حدده لذلك.

ولما سألته عن تفاصيل الخبر قال لي إنه قرر أن يغامر بما ادخره من عمله في الصحافة والإعلام على امتداد السنوات السابقة، في إصدار جريدة يعيد بها إحياء «مدرسة صحافة الرأي»، التي اندثرت منذ زحفت عليها قبل ما يقرب من قرن، مدرسة صحافة «الخبر» وانتزعت منها قراءها، إلى أن دارت عليها الدائرة هي الأخرى بعد ثورة الاتصالات التي حولت العالم إلى قرية كونية واحدة.

فأخذت صحف الخبر الورقية تلقى مصارعها واحدة بعد الأخرى، لعجزها عن مواجهة المنافسة الحادة، التي لقيتها من القنوات التلفزيونية الفضائية والمواقع الإلكترونية، التي أفقدتها ميزة السبق في بث الأخبار، وهو ما شجعه على التفكير في الاستفادة من الجانب الإيجابي لهذه الظاهرة، بإصدار جريدة يومية تعيد إحياء مدرسة صحافة المقال.

ولا أنكر أنني تحمست للفكرة، وذكرتني بالزمن البعيد السعيد الذي عاينت نماذج كثيرة منه، فيما استمتعت بقراءته في دور الكتب من صحف بداية القرن الماضي، حين كانت قصائد شوقي وحافظ ومطران، ومقالات لطفي السيد والمنفلوطي وعباس العقاد وطه حسين وميخائيل نعيمة وسلامة موسى والآنسة ميّ، تتصدر الصفحة الأولى من الصحف اليومية.

وكان باعة الصحف يجتذبون القراء لشرائها بالنداء على مقالات كبار الكتاب صائحين «اقرأ مقال فكري أباظة في الأهرام»، وهى مرحلة من تاريخ الصحافة انتهت رسمياً بإعلان «محمد التابعي» في افتتاحية العدد الأول من جريدة «المصري»- الذي صدر عام 1936- أن وظيفة الصحافة الأساسية، هي أن تنقل الأخبار للقراء.

وأن «المصري» لن تنشر في صفحتها الأولى قصائد حتى لو كان الذي كتبها لها خصيصاً هو «البحتري» ذات نفسه، لكن حماسي للفكرة لم يحل بيني وبين تقدير ما سوف يواجهها -ككل فكرة تغرد خارج السرب- من صعوبات، من بينها أن القارئ العربي المعاصر، قد تعود على وجبة متنوعة من المواد الصحفية تقدمها له الصحف العامة، تراعى أن اتساع دائرة الذين يقرأون الصحف.

قد اجتذب إليها شريحة واسعة من محدودي التعليم والثقافة، ما فرض على صناع هذه الصحف، مراعاة احتياجاتهم المعرفية، بأن تقدم لهم مواد تتواءم مع مستوى تعليمهم وثقافتهم، بحيث تتسم بالخفة، وتسعى إلى التسلية والترفيه أكثر مما تسعى إلى الإثقال عليهم، بما يجهد عقولهم ويتطلب مجهوداً لفهمه لا يتحملونه.

ومن ذلك مقالات الكتاب التي أصبحت تحشر عادة في صفحة أو صفحتين للرأي، لا ينقصهما إلا أن تتوجا بعبارة «لا تزعج نفسك بقراءة هذه الصحفة»، وابتدعت نمطاً من المقالات يتواءم مع مستوى ثقافة هذا النمط من القراء، يقوم على الإثارة وتبادل ألفاظ السباب، واصطناع المعارك، أكثر مما يعتمد على المعلومات والأفكار.

على أن «إبراهيم عيسى» -وهو صحافي موهوب ومقتدر- نجح في أن يعيد إحياء «مدرسة صحافة الرأي» في صيغة مختلفة عما كانت عليه في بداية القرن الماضي، بحيث تتواءم مع ظروف العصر وما أصاب ثقافة القراء وتعليمهم من ندوب، فجمعت صحيفته بين الجاذبية والعمق، وبين فنون الصحافة التي تجتذب القارئ، والمحتوى الجاد والرسالة الواضحة، وبين الأسلوب السهل الممتنع.

كما جمعت بين السعي لإشباع احتياجات القراء، بمقالات تتناول كل القضايا، من السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلى الأدب والفن والرياضة، ولعلها الجريدة العربية الوحيدة التي اهتمت بالتركيز على قضية محورية، هي قضية تجديد الخطاب الديني، وخصصت عدداً من صفحاتها المحدودة، للحوار بين مختلف التيارات حول هذه القضية الأساسية، التي تواجه الفكر العربي المعاصر، والتي يعزف كثيرون عن التطرق إليها، بسبب ما تجلبه لكل من يقترب منها، من صداع مزمن أو نيران طائشة!

ولعلى كنت أفضل لو أن «المقال» صدرت في البداية أسبوعية حتى تستطيع أن ترسخ أقدامها في سوق الصحافة المصرية والعربية، التي تزدحم بمئات المطبوعات، وتعانى الركود، حتى تمتلك كل أدوات الصدور اليومي المنتظم، الذي يتطلب ملاءة مالية قادرة على الصمود في سوق صحفية تعانى- منذ سنوات- نقصاً في عائد الإعلانات التي كان نصيب «المقال» منها محدوداً أو معدوماً، كما يعانى زيادة مطردة في ارتفاع نفقات خامات الطباعة، خاصة بعد تعويم الجنيه المصري.

وهى مشكلة تصورت «المقال»- في البداية- أنها تستطيع التغلب عليها بالصدور في عدد محدود من الصفحات لا يزيد على اثنتي عشرة، لتباع بسعر يطيقه القارئ، لكن الظروف اضطرتها لتخفيض الصفحات من اثنتي عشرة إلى عشر ثم إلى ثمان، ولرفع السعر من جنيه واحد إلى جنيهين، ثم إلى ثلاثة جنيهات، وبعد أيام من الزيادة الأخيرة، لم تجد مفراً من أن تعلن قرارها بالتحول من يومية إلى أسبوعية!

 

 

Email