العقل والواقع

ت + ت - الحجم الطبيعي

لن أعود إلى تعريفات العقل فلسفياً، ولا إلى تعريف الواقع نظرياً. الفكرة التي أعرض ببساطة شديدة هي الآتي: كل ما نراه من مدن وقرى ثقافة وصناعة ومؤسسات وسياسة واقتصاد وممارسات: من ممارسة شرطي السير إلى ممارسة أكبر مسؤول، كل هذا هو ثمرة عقلٍ ما.

بهذا المعنى، فكل مل نراه في الواقع هو العقل. بل الإنسان في سلوكه وغاياته وأخلاقه وعلاقاته بالآخر هو عقله المتكون.

ويُحكى أن الفيلسوف الألماني الأشهر هيغل حين نظر من النافذة ورأى خيول جيش نابليون تتقدم في مدينته «إينا» قال: «ها أنا أرى العقل يمتطي حصاناً». صحيح أنه كان يقصد أن نابليون يمثل عقل التاريخ، لكن هذا لا ينفي بأن كل ما يتمخض عن ممارسات البشر هي ثمرة عقولهم.

ولأن الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن العقول ليست واحدة، لا على مستوى الأفراد، ولا على مستوى الأمم، ولا على مستوى الدول.

والمثال الأبرز المعبر عن اختلاف العقول هو المؤسسة. أي مؤسسة، سواء كانت مؤسسة حكومية أو مؤسسة خاصة. أجل المؤسسة هي عقل. بل هي أحد أهم المعايير للتمييز بين العقول. وبين عقول الدول على وجه الخصوص.

فمن المعروف تاريخياً بأن البيروقراطية ملازمة لنشأة الدولة الحديثة ومؤسساتها. وكلمة بيروقراطية تعني سلطة المكتب. وهي طريقة لتسيير أمور الناس انطلاقاً من القوانين والقرارات التي تسنها الدولة، أو الشركة.. الخ. بهذا المعنى البيروقراطية هي عقل بيروقراطي.

ولكن البيروقراطية مرتبطة بتاريخ معين للمؤسسة وقوانينها وقراراتها المرتبطة هي الأخرى بحال المجتمع.

أن تخرج من مطار دبي بوصفك مواطناً أو مقيماً ببطاقة الهوية الشخصية وتعود إليها بالطريقة نفسها فهذا تحرر من عقل بيروقراطي قديم قائم تقنين عملية السفر. وهذا الأمر مختلف جداً عن دولة ما زالت تطلب من مواطنيها تأشيرة خروج من الهجرة والجوازات والتدقيق في جواز سفره في المطار والتحقق من انه هو هو.

نحن في الظاهر أمام طريقتين في قوانين السفر، لكننا في الحقيقة أمام عقلين. عقل يفكر بكل ما من شأنه جعل الحياة سهلة مع الاحتفاظ بحماية الأمن وعقل بيروقراطي قديم غير مكترث بالمواطن وسعادته.

أي عقل هذا الذي يحتفظ بإجراءات تعود إلى نصف قرن من الزمان في وقت صارت الآلة تقوم بمقام جيش من الموظفين.

لا شك الآن عند القاصي والداني أن السلطة الحاكمة في أي بلد من بلدان العالم هي عقل يمارس السلطة. فمن الطبيعي أن يكون عقل السلطة المطابقة للمجتمع والعاملة على تحقيق حاجاته مختلفاً عن عقل سلطة الغلبة التي تحكم بالقوة متناقضة مع خيارات المجتمع.

ولما كان العقل هو التفكير، ولما كانت الدولة هي العقل، فإن الدولة تفكر. وعندها باستطاعتك أن تقول: قُلْ لي كيف تفكر دولتك أقول لك من أنت.

بقي أن أهمس في أذن الذين ما زالوا يتحدثون بمنطق كنّا ونحن الذين فعلنا كذا وفعلنا كذا، قائلا: ما كان أمر مضى ولن يعود، والمصيبة كل المصيبة أن تظل كما كنت. والمهم كيف أنت الآن وكيف عليك أن تكون. وهذا هو الفرق بين عقلٍ ماضوي وعقل مستقبلي. بين عقل يجمد الحياة وعقل يصنع الحياة.

 

 

Email