العروبة.. خير وأبقى!

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد الإفطار تتاح فرصة لا توفرها ظروف العمل في غير رمضان لمشاهدة بعض المسلسلات التي تحكي عن الناس زمان في بلاد الشام (سوريا الطبيعية: سوريا، فلسطين، الأردن ولبنان). أعني الشعب والعادات، القمباز، الحطة والعقال، الشروال، الثوب المقصب، الشاش الأبيض، أغاني الفلاحين، الدبكة، الأعراس، خبز الطابون، شهامة الرجال، خجل النساء و.. و.. ويا إلهي كم كانوا شعباً واحداً، كم فرقهم الاستعمار. كم تغيرت المعادلات وكم تبدلت الأسماء!

يحكي التاريخ القريب أن العرب توحدوا في معركة التحرر من الحكم العثماني لينالوا حريتهم بعد أربعة قرون من سيطرة الخلافة العثمانية. هنا يختلف المؤرخون حول ما إذا كان العثمانيون محتلين للبلاد العربية أم موحدين لها تحت راية الإسلام.

أياً كان الأمر، فإن الهوية العربية اختفت قروناً أثناء الخلافة العثمانية غير العربية. وفي أواخر أيام الخلافة شهدت مدن عربية مجازر ارتكبها جمال باشا، الملقب بالسفاح، الذي نصب أعواد المشانق للثوار العرب في ساحة المرجة بدمشق وساحة البرج في بيروت. وقد ساق السفاح للمناضلين العرب مختلف التهم من التخابر مع الاستخبارات البريطانية والفرنسية، إلى العمل على الانفصال عن الدولة العثمانية، وهو ما يقال إنه ما كان يسعى إليه هو نفسه. وأخيراً توج عمله هذا بجريمته التي نفذها في السادس من مايو عام 1916، عندما أعدم 21 مناضلاً ومثقفاً عربياً في كل من بيروت ودمشق، بعد أن أحال ملفاتهم إلى محكمة العالية العرفية، حيث أديرت المحاكمة بقسوة وظلم شديدين، وبدون أن تحقق أدنى معايير المحاكمات العادلة والقانونية، صامّاً أذنيه عن جميع المناشدات والتدخلات التي سعت لإطلاق سراحهم. وخصوصاً تلك التي أطلقها الشريف حسين بن علي شريف مكة، الذي أرسل البرقيات إلى السفاح وإلى السلطان وإلى الصدر الأعظم، وأوفد ابنه الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق، وقابل السفاح ثلاث مرات في مسعى لإيقاف حكم الإعدام دون جدوى، إذ أن السفاح كان قد عقد النية على تنفيذ مخططه الرهيب.

أحمد جمال باشا هو قائد عسكري عثماني ومن زعماء جمعية الاتحاد والترقي، ومن المشاركين في الانقلاب على السلطان عبد الحميد، وقد شغل منصب وزير الأشغال العامة وقائد البحرية العثمانية، قبل أن يصبح الحاكم المطلق في سوريا وبلاد الشام.

وقد خطب جمال باشا أول قدومه إلى دمشق في النادي الشرقي عام 1914م قائلاً:

«يجب عليكم يا أبناء العرب أن تحيوا مكارم أخلاق العرب ومجدهم، منذ شروق أنوار الديانة الأحمدية، أحيوا شهامة العرب وآدابهم حتى التي وجدت قبل الإسلام، ودافعوا عنها بكل قواكم. واعملوا على ترقية العرب والعربية، جددوا مدنيتكم، قوموا قناتكم، كونوا رجالاً كاملين».

إلا أن والي سوريا الجديد، لم يكن في الحقيقة إلا مبغضاً للعرب، كارهاً لهم، وكان يبيت في نفسه نية الانتقام منهم ومن حركاتهم السياسية على الأخص، حالما تسنح له الفرصة.

نتذكر هذه الصفحة من التاريخ العربي في هذا الوقت الذي نشهد فيه هرولة من بعض دولنا العربية نحو الاستعانة بالأجنبي على الشقيق العربي عسكرياً وسياسياً.

لكأن معادلة «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب» أصبحت «أنا على أخي وأنا والغريب على ابن عمي»!

علمتنا أخلاقنا العربية أن الصغير يحترم الكبير ولا يتطاول عليه؛ كما علمتنا تجارب التاريخ ألا يستقوي الصغير على الكبير. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول.

هذا العالم الذي نعيش فيه يدار من قبل أشخاص لا يتجاوزون الواحد في المئة من سكانه يملكون 99 في المئة من موارده ويتحكمون بحكومات العالم، لسبب واحد هو أن يزدادوا مالاً وسلطة، لهم أسماء عديدة فالبعض يسمونهم النورانيين وآخرون يسمونهم مجموعة بليديربيرغ.

قد يبدو الأمر مبالغا فيه وهو كذلك، ولكن بالتأكيد فإن الذي يتحكم بالعالم هم الليبراليون الجدد وعقيدتهم هي الرأسمالية الشرهة، أساسها الملكية الفردية وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد؛ وهذه الليبرالية نظام اجتماعي وثقافي وأيديولوجي وحتى ديمغرافي.

وقد بدأت الليبرالية الجديدة إبان حكم ريغان وتاتشر ووصلت إلى قمتها قبل ربع قرن، لها أذرعها كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والوكالة الأميركية للتنمية تحت مظلة الأمم المتحدة، وإذا تطلب الأمر فسترسل جيوشها لفرض سياساتها بالقوة. وقد تبجح العديد من منظري الليبرالية الجديدة بأن هذه الأيدولوجيا، أي الرأسمالية، قادرة على إصلاح نفسها، ولكن يوم 15.9.2008 كان يوماً فارقاً في تاريخ الليبرالية الجديدة وقد يؤرخ لاحقا ليكون ذكرى انهيار الرأسمالية، ففي هذا التاريخ بدأ الانهيار الاقتصادي بانهيار بنك ليمان، وبعد عشرة أعوام لم يتعافَ العالم من هذا الانهيار.

الاقتصاد مهم في بناء الدول، لكنه لا يكبر حجمها. الإعلام يساعد في إيصال صورة الدول، لكنه لا يصنع دولاً قوية بل يضخم صوتها بحيث يصبح أكبر من مساحتها ومن حجمها. تلك هي الدول الهشة. الغاز يطير في الهواء. أما الدول العميقة فإنها خير وأبقى!!

*كاتب أردني

Email