في ذكرى رحيل زايد

ت + ت - الحجم الطبيعي

«عندما ملأت الدموع المحاجر والكلمات غصت في الحناجر» كان هذا وصف صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في ذكرى وفاة الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والذي انتقل إلى رحمة الله في مثل هذه الأيام المباركة قبل ثلاثة عشر عاماً.

حينها سمعنا «كلمات ترفضها الآذان، وإذا بها تمزق الوجدان، مات زايد بن سلطان»، والكلام مازال للشيخ الدكتور سلطان.

في التاسع عشر من رمضان رحل الزعيم الملهم والقائد الفذ والذي عز على الزمان أن يجود بمثله. وقد مثل الفقيد والراحل الكبير مدرسة فريدة في القيادة. وقد وصف أحد المؤرخين قيادة زايد بأنها استثنائية في منطقتنا بل والعالم.

وقال إن القيادات الكبرى في عالمنا العربي مثل جمال عبد الناصر قادت دولاً مكونة ومؤسسة منذ فترة بعيدة، ولكن زايد بنى الدولة بنفسه وقادها. ويستحق بالفعل أن يقال عنه رجل دولة من الطراز الأول.

وفي هذه الأيام العصيبة والتي تكالبت على الأمة حركات متطرفة ودول مارقة وقوى طامعة، نستشعر الفراغ الذي تركه زايد في العالم العربي.

كما أننا أحوج اليوم إلى حكمة هذا الزعيم والذي فاز بلقب حكيم العرب بجدارة واستحقاق. وقد صقلت تجاربه عبر السنين والحكمة التي أودعها الله في زايد شخصية هذا القائد الهمام والذي ترعرع في كنف بيت الحكم في أبوظبي وهو حفيد لحاكم وابن لحاكم وأخ لحاكم قبل أن يتولى الحكم بنفسه في يوم أغر في السادس من أغسطس لعام 1966.

وقد تميز زايد في أسلوب قيادته بالحكمة، والتعريف العام للحكمة هي التبصر بالأمور وترجيحها نحو الصواب. ولكن حكمة زايد وأسلوبه القيادي من نوع فريد، وأقرب معنى لهذا النوع من الحكمة ما أطلق عليه الفيلسوف اليوناني أرسطو بـ«فرونيسس».

وعادة ما يترجم هذا المفهوم بالإنجليزية إلى «الحكمة العملية». أي تبصر الوسائل لتحقيق الغايات النبيلة. ويطلق عليها الفيلسوف المسلم الفارابي بـ«التعقل»، أي أخذ الأمور بكثير من الحصافة والتأمل وتحقيق الأهداف بأفضل الوسائل.

وقد اطلعت على هذا المفهوم خلال قراءتي لسيرة جورج بول والذي تقلد مناصب دبلوماسية عدة ومنها وكيل وزارة الخارجية الأميركية في عهد جون كيندي وليندن جونسون.

ويقول كاتب السيرة جيمس بيل أن المعنى الحقيقي لمفهوم «فرونيسس» عند أرسطو هو ليس الحصافة فحسب بل «الحكمة العملية والتي تتعلق باختيار السبل المناسبة للتوصل لأهداف جيدة أو أخلاقية».

ويختلف هذا المفهوم عن البراغماتية السياسية للوصول للغايات بأنها تركز على السياق الأخلاقي للوسائل والغايات، كما أن المفهوم يركز على الممارسة لا على الحكم على الأشياء فهي تداخل بين المعايير وتطبيقاتها.

وأخيراً يتميز المفهوم بالتوازن بين المعرفة والعاطفة بتوحيد العقل والمشاعر الوجدانية. والمتأمل في قيادة زايد بعمق وتحليل نراها فعلاً تتمثل في مفهوم أرسطو بأروع صورها.

فقد كان صفته التحلي بالتعقل والتوسط في كل الأمور واتخاذ السبل الكفيلة بتحقيق الأهداف النبيلة. وكان مشاعره الوجدانية حول القضايا التي يؤمن بها يخضعها لتمحيص العقل قبل الإقدام عليها.

وتتجلى حكمة زايد في مقاربته لإنشاء كيان اتحادي يضم في جنباته كيانات سياسية هشة رزحت تحت السيطرة البريطانية لما يزيد قرناً ونصف دونما أن يتغير الكثير في واقعها الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي.

فلم يكن هناك من مقومات الدولة إلا اليسير لجهة البنية التحتية أو مؤسسات الدولة من بيروقراطية ومؤسسات عسكرية وأمنية وشرطية؛ ناهيك عن المؤسسات الخدمية من صحة وتعليم ورعاية اجتماعية. وكان لزاماً أن تنشئ كل هذه المؤسسات من البداية أو على أسس بدائية.

أضف إلى ذلك أن التنافس السياسي بين إمارات الساحل كان على أشده بسبب الخلافات الحدودية وتداخلها مما نزع الثقة بين شركاء الوطن الواحد، وكان من المطلوب تأسيس لثقافة وحدوية متجانسة ومتوائمة من ميراث تاريخي اعتراه هواجس ومخاوف كثيرة.

ولم يكن الإقليم المحيط بدولة المستقبل بأفضل حال من المورثات التاريخية التي ينئ تحتها الوطن. فالإقليم العربي في ظروف سياسية منقسمة وضحية لأطماع خارجية متمثلة في قوى إقليمية ودولية.

وقد رأى زايد بنظرته الثاقبة وبحكمته المعتادة أن ما يربط أبناء هذه الأرض أكبر مما يفرقهم بعد رحيل الاستعمار والذي استغل كثيراً من هذه المشاحنات بين الأخوة في الدم والدين والأرض. وكان لابد من تشييد الدولة الاتحادية والتي ستتحمل أعباء تشيد البنية التحتية للبلد وخلق المؤسسات الحديثة التي ستضطلع بتحويل الوطن من كيانات ضعيفة إلى دولة عصرية في مصاف الدول المتقدمة.

ومع كل هذه الظروف أخذ زايد بالوسائل السياسية لبناء الثقة بين أبناء الأرض الواحدة والوصول إلى غايته الأخلاقية للنهوض بالوطن والمواطن، وأخذ بوسيلة التدرج حتى في أمور في غاية الأهمية لقيام الاتحاد مثل توحيد الجيش، بل تدرج لإقناع الجميع بالمصير المشترك وبناء دولة الاتحاد لبنة لبنة حتى تشكل هذه الدولة والتي نراها اليوم تزداد قوة ومنعة وتقدم وازدهار. رحم الله زايد وحفظ من خلفه.

 

Email