الأغلبية القلقة في بريطانيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

مفارقتان جديرتان بالتأمل في نتائج الانتخابات البريطانية.

أولاهما أن تيريزا ماي، تماماً مثل ديفيد كاميرون من قبلها، وقعت ضحية تقديراتها التي جانبها الصواب، أما المفارقة الثانية والأهم فهي أن نتيجة الانتخابات سوف تفتح، على الأرجح، أبواب بريطانيا لانتخابات مبكرة أخرى في المستقبل المنظور.

بداية تنبغي الإشارة إلى أن التقدير الخاطئ لتيريزا ماي لم يكن في الدعوة لانتخابات مبكرة، وإنما في الحسابات التي بنيت عليها.

الدعوة لانتخابات مبكرة من جانب الحزب الحاكم طمعاً في أغلبية أكبر ليست غريبة في ذاتها على النظم البرلمانية كالنظام البريطاني.

عندما يجد حزباً حاكماً أن شعبيته، في لحظة بعينها، قد تسمح له بزيادة مقاعده، فإنه كثيراً ما يدعو لانتخابات مبكرة لهذا الغرض وحده.

من خلالها يأمل مثلا أن يشكل الحكومة وحده، دون الحاجة لائتلاف انتخابي، أو يسعى لدعم قدرته على تمرير سياساته وتشريعاته.

ولأنها مخاطرة، فإن أي حزب حاكم لا يقدم عليها دون حسابات دقيقة. لكن ثبت في حالة تيريزا ماي أن التقديرات الحزبية لم تكن دقيقة، فهي خسرت الأغلبية التي كان حزبها يملكها بالبرلمان ويحكم بناء عليها منفرداً، بل صارت في حاجة لحزب آخر يتحالف مع حزبها للوصول للأغلبية المطلقة اللازمة لتشكيل الحكومة.

رئيسة الوزراء البريطانية التي تولت منصبها، بعد استقالة ديفيد كاميرون العام الماضي، متعهدة بعدم إجراء انتخابات جديدة قبل موعدها المقرر في 2020، عادت هي نفسها وأعلنت الشهر الماضي إجراء انتخابات مبكرة في يونيو الجاري.

وهي حين دعت للانتخابات، كان حزبها بالفعل متقدماً بفارق شاسع عن حزب العمال في استطلاعات الرأي، وكانت تقديرات رئيسة الوزراء أن بإمكان حزبها زيادة عدد مقاعده بالبرلمان من مصدرين، أولهما بعض مقاعد حزب العمال عبر هزيمة مرشحيه، وثانيهما التهام مقاعد حزب "استقلال المملكة المتحدة"، الشعبوي اليميني، الذي كان من القوى الفاعلة التي نجحت في الدفع نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء البريكسيت في يونيو الماضي.

تيريزا ماي أعلنت صراحة عند الدعوة للانتخابات أنها تسعى للحصول على تفويض شعبي يمنحها وضعاً تفاوضياً أفضل في بروكسل.لكن في غضون أسابيع ستة هي عمر الحملة الانتخابية، تبدلت الساحة السياسية بشكل كبير. فرغم أن الناخب البريطاني لم يمنح حزب العمال الأغلبية إلا أن الحزب سجل أفضل نتائج له منذ عقود، مما حرم حزب المحافظين من العودة للبرلمان حتى بأغلبية المقاعد التي كان يملكها قبل الانتخابات.

المحافظون فقدوا 21 مقعدا بدلا أن يفوزوا بمقاعد إضافية. الحزب لم يفلح في الاقتناص من مقاعد حزب العمال، الذي ازدادت شعبيته خلال الحملة الانتخابية. بل أكثر من ذلك، فإن حزب الاستقلال، الذي فشل في الحصول على أية مقاعد في تلك الانتخابات، لم تذهب أصواته للمحافظين كما قدرت تيريزا ماي، وإنما عادت لحزب العمال.

المفارقة إذن أن هذه هي المرة الثانية في أقل من عامين التي يخطئ فيها زعيم حزب المحافظين تقدير توجهات الناخب البريطاني.

تيريزا ماي افترضت أن تكون مفاوضات بروكسل هي جوهر الحملة الانتخابية، لكن القضايا الاجتماعية وسياسات التقشف التي تبنتها كانت هي ما ساعد حزب العمال، الذي تقدم ببرنامج حزبي جريء فيما يتعلق بتلك القضايا، فخسرت تريزا ماي الأغلبية.

الانتخابات لم تمنح تيريزا ماي وضعاً تفاوضياً أفضل مع الأوروبيين ولا هي منحتها ما يُمكنها من تنفيذ سياساتها الداخلية التي أعلنت عنها في برنامجها.

وفيما يتعلق بمفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن الحزب الديمقراطي الاتحادي، أكبر أحزاب أيرلندا الشمالية، الذي وافق على التحالف، لا الائتلاف، مع حزب المحافظين، له مواقف تختلف عن مواقف تيريزا ماي فيما يتعلق بمفاوضات البريكسيت، مما يعني الضغط على حزب المحافظين للحصول على تنازلات، سواء في هذا الملف أو فيما يتعلق بأيرلندا الشمالية.

فيما يتعلق بقضايا الداخل، فإن زيادة مقاعد حزب العمال تعني عرقلة سياسة المحافظين التقشفية، واستجابة تيريزا ماي لأي من الحزبين قد يشق حزبها المنقسم على نفسه حاليا، يجعل رئاستها للوزارة نفسها مضطربة، الأمر الذي قد يعني انتخابات مبكرة جديدة، أي قبل موعدها المقرر في 2020.

معنى كل ذلك أن يصبح مستقبل الاتحاد الأوروبي مرهوناً، ليس فقط بالانتخابات الألمانية، المقرر عقدها في سبتمبر القادم وإنما بالانتخابات البريطانية التي قد تسفر عنها تفاعلات الحياة السياسية البريطانية في الوقت الراهن.

 

 

Email