رئيس جديد في الشرق

ت + ت - الحجم الطبيعي

سواء أكان الصاروخ الذي أطلقته بيونغ يانغ باليستياً عابراً للقارات أو متوسط المدى، إلا أنه بالتأكيد يمثل عنصر توتر متعدد الرسائل، خاصة مع وصول رئيس جديد في كوريا الجنوبية اختار أن يجنح للسلام بشكل مبدئي في تعبير صريح عن رغبة الشعب الكوري الجنوبي الذي اختاره رئيساً للبلاد في مشهد ديمقراطي فريد في عدم وضع شبه القارة الكورية على شفا الحرب، وهو باختياره هذا يدافع عن حقه في البقاء وعن معجزته الاقتصادية وتجربته الديمقراطية التي مرت بمراحل مخاض صعبة.

منذ سبعينيات القرن الماضي اتسمت التجربة الديمقراطية في كوريا الجنوبية بخصوصية شديدة وسمات فريدة من نوعها، تزامنت مع انطلاق المعجزة الاقتصادية التي جعلت من كوريا الجنوبية، ليس مجرد نمر آسيوي فحسب ولكن دولة تحظى بمكانة خاصة على خريطة الاقتصاد العالمي.

التوتر القائم في منطقة شبه الجزيرة الكورية منذ تقسيمها بين الدولتين الشمالية والجنوبية في مطلع الخمسينيات لم يتراجع يوماً وإن تأرجحت درجات خطورته بين التوتر الشديد على غرار ما حدث في الأسابيع الماضية تزامناً مع تولي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب السلطة في بلاده .

وتصعيد كوريا الشمالية من عمليات تطوير برامجها النووية والصاروخية، وبين الهدوء والاستقرار النسبي على غرار ما حدث في التسعينيات من القرن الماضي عندما تمكن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مبعوث الرئيس الأميركي وقتها بيل كلينتون من إبرام اتفاق تاريخي مهم مع الزعيم الأشهر لكوريا الشمالية كيم ايل سونغ لتغيير الطبيعة العسكرية من البرنامج النووي الكوري الشمالي بتغيير مواصفات وقدرات عمل مفاعلاتها النووية، خاصة في محطة يونجبيون وبروز حقبة «الشمس المشرقة»، إلا أن هذا الاتفاق لم يصمد طويلاً برحيل كيم ايل سونغ واشتعال الاتهامات بين البلدين بعدم الالتزام ببنود الاتفاق.

هذه الظروف الأمنية الخطيرة لم تحل دون انطلاق التجربة الحديثة لكوريا الجنوبية بشقيها السياسي والاقتصادي بالتأكيد بالتعاون مع أطراف دولية مؤثرة على رأسها منظومة الدول الرأسمالية الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة واليابان، بحيث أصبحت أسماء الشركات الكورية الكبرى ملء الأسماع والأبصار على الصعيد العالمي في كل المجالات.

منذ انطلاق حقبة التحديث الديمقراطي تعرضت كوريا الجنوبية لحالات فساد ضخمة جداً تورط فيها مسؤولون على درجات متفاوتة ومتنوعة من السلطة، وكانت سبباً في كثير من التوترات السياسية الداخلية، وليس خافياً أن ظاهرة عزل الرؤساء ورؤساء الوزراء والمسؤولين رفيعي المستوى كانت متكررة بشكل كبير في هذه الدولة لتورطهم في قضايا فساد كبرى بمئات الملايين من الدولارات.

على ما يبدو أن الظروف قد جاءت بهذا الرئيس الجديد في توقيت مهم جداً لما تمر به الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية ومنطقة الشرق الآسيوي بشكل عام، وفي القلب منها بالتأكيد كوريا الجنوبية.

وهناك رسائل لا حدود لها يمكن استخلاصها من هذه الخطوة التي تعكس بداية رغبة من الشعب الكوري الجنوبي في عدم تصعيد التوتر مع الجارة الشمالية أو الوصول بالعلاقات معها إلى حافة الهاوية، فقد جاء الرجل ومعه حقائق جديدة تجعل من عدم المبالغة التأكيد على أنه يمثل مرحلة جديدة للسلام عبر شطري كوريا.

وليس أدل على ذلك من أنه بادر بطرح مبادرته السلمية بإمكانية الاجتماع مع الرئيس الكوري الشمالي متى اقتضت الضرورة ذلك، وهي لهجة جديدة تختلف مع السائد في المنطقة منذ سنين وتصاعد بشدة في الشهور الأخيرة.

انتخاب رئيس كوريا الجنوبية الجديد أعاد الليبراليين إلى سدة الحكم وقد يؤسس لخلاف محتمل مع الولايات المتحدة على خلفية البرنامج النووي لكوريا الشمالية.

وقد يكون من المهم عند الحديث عن الرئيس الجديد الإشارة إلى أنه ابن للاجئين من كوريا الشمالية ويواجه تحديات داخلية للحد من قوة الأعمال التجارية الكبرى ومعالجة الانتهاكات التي تصاحبها وسبقت الإشارة إليها، محدداً أجندته لتحقيق ذلك بأنه سيكون رئيساً لكل مواطني بلاده، وأنه سيعمل مع الخصوم السياسيين لإنشاء دولة يسودها العدل والتفكير السليم، وفي الوقت ذاته.

وعلى الصعيد الخارجي يواجه تحدياً كبيراً بحتمية إنجاز وعوده باتخاذ نهج جديد تجاه كوريا الشمالية بالتزامن مع إحداث توازن في العلاقات مع الولايات المتحدة والصين، من خلال «النهج التصالحي» الذي قد ينتهجه مع جارته الشمالية، حتى وإن حثت الإدارة الأميركية العالم على زيادة الضغوط على بيونغ يانغ.

وقد ظهرت مؤشرات مبكرة على ذلك حيث يرى الرئيس الجديد أن اعتماد واشنطن على العقوبات وأسلوب الضغط لم يعد فعّالاً، وأن الوقت قد حان للحوار والانخراط مع كوريا الشمالية، وهو التوجه الذي تفضله الصين، كما أنه طالب بإعادة النظر في مسألة نشر البنتاغون لنظام ثاد الدفاعي المضاد للصواريخ بكوريا الجنوبية .

وهي الخطوة التي نددت بها الصين في وقت لاحق، وعلى الرغم من التناقض الغريب في موقفه والذي أدان على إثره النظام الدكتاتوري الوحشي لكوريا الشمالية خلال حملته الانتخابية.

فإنه دعا بلاده لاحتضان شعب كوريا الشمالية لتحقيق إعادة التوحيد السلمي، وحتى يتحقق ذلك الأمر أقر مون بضرورة الاعتراف بكيم غونغ أون حاكماً لكوريا الشمالية والحوار مع بيونغ يانغ مع التأكيد على أن تهدف العقوبات إلى إعادة كوريا الشمالية لطاولة المفاوضات.

 

Email