الفلسطينيون لم يفقدوا ذاكرتهم

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أن يخمد لهيب الجولة الأولى من حرب اغتصاب فلسطين 1948-1949، اتجه الغزاة الصهاينة إلى تدمير معالم الوجود العربي الفلسطيني في المناطق التي سيطروا عليها، وأجلوا عنها أصحابها الأصليين بالقوة، وكانت تقدر وقتذاك بنحو 78% من فلسطين التاريخية بين النهر والبحر.

في حمأة تلك الحملة المسعورة لتخريب العمران الفلسطيني واستئصاله، جرى محو أكثر من 500 مدينة وقرية ومحلة سكنية؛ كان بعضها زاخراً بالحياة الإنسانية المتحضرة لآلاف السنين.

وكان التصور الصهيوني عموماً أن زوال ذلك العمران بمعاول الهدم كحد أقصى، أو بتغيير مسمياته العربية الأصيلة بأخرى عبرية وأعجمية ملفقة كحد أدنى، سوف يغيبه من الجغرافيا والتاريخ معاً ويصنع له رواية إنسانية قومية أخرى بعناوين يهودية.

وقد شجع على هذا التقدير المسافة التي أوجدتها حالة اللجوء الفلسطيني بين الأرض والأماكن وبين أصحابها، والقناعة الصهيونية بأن اللاجئين مجرد «كبار يموتون وصغار ينسون».

لكن ما أغفله هؤلاء أن العمران الإنساني حين يكون أصيلاً ومتجذراً في المكان وممتداً في الزمان، يؤدي إلى إنشاء حالة من التفاعل والتمازج الطبيعي بين البشر والحجر والشجر وبقية مكونات البيئة المحيطة، حالة قد يصح وصفها جدلاً بالكيميائية الخاصة بين هذه الموجودات، ومن هذا المزيج الكييمائي، تنبعث الرواية الحقيقية لما يعرف بالوطن.

المؤكد أن صلة الفلسطينيين بفلسطين نموذج صارخ على صدقية هذا التعميم، إلى الدرجة التي جعلت بعض الغزاة يضربون أخماساً في أسداس، ذلك أن أجداد اللاجئين وآباءهم؛ الذين اكتووا بالنزوح عن أماكنهم وما بها من عمران، نقلوا صورتها إلى الأبناء والأحفاد، وعرفوهم بأسمائها وعلاقاتهم بها بالتفصيل الممل.

وفي هذا السياق التوثيقي الشفهي والتحريري، عرف الورثة أن «بتاح تكفا» ليست سوى قرية ملبس، وأن «رمات أفيف» هي أم الزينات و«بير شيفع» هي بئر السبع و«أشكلون» هي عسقلان و«تل أبيب» هي تل الربيع.

عموماً ثبت أن عمليات التجريف الصهيونية الإسرائيلية لم تنل من ذاكرة الأجيال الفلسطينية التالية لسنوات اللجوء الكئيبة، واليوم إذا ما تم توجيه سؤال إلى طفل فلسطيني، لم يسبق له أن عاين فلسطين ولا وطأ أرضها، عن نسبه وحسبه، أجاب باسم المدينة أو القرية أو المحلة التي غادرها أجداده، وربما زاد بوصفها شارعاً شارعاً وحارة حارة وعائلة عائلة.

فيما تستقبل إسرائيل عامها السبعين، علق أحد المتابعين الصهاينة على هذه الظاهرة بأن «...البلاد تشهد نشاطاً مكثفاً من جهات عربية وإسلامية، تسعى للكشف عن الماضي العربي الفلسطيني وتقزيم التغيرات الكبيرة التي فعلتها الصهيونية. يحدث هذا من خلال التوثيق والزيارات وإحياء جميع القرى التي تم تركها أو هدمها، ومحاولة إعادة إسكانها وتربية الأجيال الجديدة على معرفة مواقع قراهم الأساسية وطلب العودة إليها..».

ما يثير السخرية في هذه المداخلة أنها جاءت متأخرة كثيراً.

فلسطين التي اقتلع الفلسطينيون منها كرهاً، ظلت محفورة في الصدور كما في المتون والخرائط، والحركة الإحيائية لصيانة هويتها وتوريثها عبر الأجيال، قائمة منذ لحظة الاقتلاع وليست نهجاً جديداً.

من السخيف تماماً أن يزعم الصهاينة أن اليهود توارثوا تاريخاً خلقوه من العدم لما يسمى أرض الميعاد، لمدة ألفي عام، بينما يستهجنون ويستكثرون على الفلسطينيين وراثة صورة حقيقية وليست مبتدعة أو مصطنعة لأرضهم ومدنهم وقراهم، وبيوتهم التي ما زالت مفاتيحها في أيديهم، على مدار سبعين عاما.. لا أكثر.

قبل بضعة أشهر، حار كل المعنيين في تفسير ظاهرة اندلاع الحرائق بشكل متزامن في مناطق متفرقة من إسرائيل، وبعد جهد جهيد اكتشف بعض أهل العلم أن العلة تكمن في قيام الصهاينة بتجريف الأشجار الأصلية في أحراش تلك المناطق، واستزراع أنواع أخرى لا تتناسب ومناخ البلاد.

يومذاك قلنا إن البيئة الطبيعية لفلسطين تدافع عن نفسها وترفض تغيير هويتها. هذا مع شيء من المبالغة هو موقف الأرض والشجر، فكيف الحال بموقف البشر؛ الذين يملكون دون كل المخلوقات ذاكرة يمكن توريثها بوسائل كثيرة؟!

الفلسطينيون نكبوا وأضيروا في أنفسهم وممتلكاتهم وأموالهم، لكنهم لم يفقدوا ذاكرتهم، وسوف تبقى روايتهم حية لا تسقط بالتقادم، شاء من شاء وأبى من أبى.

 

Email