يدور سجال بين الاستراتيجيين وخبراء العلاقات الدولية حول رجوع الجيوبولتيك إلى معادلة العلاقات بين الدول، هناك ظلال من الفوارق في معنى الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك والسياسة الدولية.
الأخير يشير إلى مجمل العلاقات بين الأمم، أما الجغرافيا السياسية فتشير إلى الواقع الموضوعي لجغرافية الدول ومدلولاتها السياسية.

مفهوم الجيوبولتيك، وهو ذو علاقة بالمفهوم الأخير، فيتعلق بالوعي الجغرافي ومدلولاته السياسية، أي أن الجيوبولتيك هي الجغرافيا السياسية من خلال الواقع الذاتي، وليس الموضوعي، وفهم صُنّاع القرار في دولة معينة للجغرافيا السياسية وعلاقاتها بالقوة المرتبطة بالجغرافيا هي مادة الجيوبولتيك.
أحسب تراجع علم الجيوبولتيك لصالح العلاقات الدولية بسبب أولاً تداخل الحقلين رغم اختلافهما، وثانياً، أن التكنولوجيا الحديثة تجاوزت الحدود الجغرافية سواء كانت في الأسلحة المتطورة مثل حاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات وحاليا عسكرة الفضاء جعلت من الجغرافيا شيئاً عفا عليه الدهر.
كما أن وسائل النقل الحديثة والثورة المعلوماتية أسهمت في إضعاف الجغرافيا كعامل في العلاقات الدولية، ولم يعد السيطرة على الأراضي بأهمية السيطرة على المعرفة والتكنولوجيا والرساميل.
لا شك أن هناك مبالغة في أية مقولة تقلل من الأهمية الجغرافية للبلدان، فالجغرافيا تعني مصادر اقتصادية زراعية وطبيعية، وكذلك مصادر بشرية، وقد تدارك بعض المحللين الأهمية الكبيرة للجيوبولتيك بسبب التطورات الراهنة في العالم.
وفي العام 2013 صدر كتاب للمحلل الجيوسياسي روبرت كابلن بعنوان «انتقام الجغرافيا: ما الذي تُخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن المعركة ضد المصير».
يرى كابلن أن سلوك الدول تحددها الجغرافيا، وبالنسبة لكابلن فإن الجغرافيا لا تعني السهول والجبال فحسب ولكن الجغرافيا البشرية والتي تتفاعل مع الجغرافيا الطبيعة بحيث تحد من تمدد أو انغلاق الشعوب على نفسها، وقد أحيا كابلن منظري الجيوبولتيك في القرنين التاسع عشر والعشرين والذين برروا في كثير من الأحيان سيطرة البلدان الاستعمارية على الدول تحت مبررات عوامل جيوبولتيكية.
ولكن التمدد الغربي وما تشعر به موسكو من تطويق ليس لحدودها السياسية فحسب، بل لمناطقها الحيوية، وكذلك الأحداث المتعلقة بالتمدد الروسي جنوباً وغرباً، وتعزيز موطئ قدم في الشرق الأوسط، أعاد الجيوبولتيك لواجهة الاهتمامات الأكاديمية والسياسية، ومازال النقاش حول التطورات الدولية تدور حول هذه القضايا والتطورات الراهنة.
وقد عبّر ولتر رسل ميد، الأكاديمي المتخصص في الشؤون الدولية، بما اسماه «عودة الجيوبولتيك».
يرى ميد أن الغرب استمرأ انتصاره في الحرب الباردة والتي أفضت إلى انتهاء الصراع الأيدولوجي بين الرأسمالية الليبرالية والشيوعية.
في لحظة نشوة الانتصار أعلن فرانسيس فوكوياما أطروحته عن انتهاء التاريخ، بمعنى أن صيرورة التاريخ تتعلق بصراع الأفكار، وان انعدامها، حسب المنطق الهيجلي، يقوض حركة التاريخ.
يشير ميد إلى الاستكانة التي شعر بها الغرب لنهاية الحرب الباردة والتي انتهت لصالح الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولكن هناك دولاً عديدة امتعضت، إن لم نقل شعرت بالسخط، لكيفية انتهت الحرب الباردة.
ليس خافياً أن روسيا هي أول دولة شعرت بالمهانة من طريقة انتهاء الصراع بين الكتلة الشرقية والغربية، وقد أمعن الغرب في إذلال موسكو في التوسع شرقاً على حسابها باحتواء دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
من اهم المخاطر الجيوبولتيكية التي تواجه العالم اليوم بالنسبة لميد هي تلك التي تفرضها ثلاث دول مارقة ورافضة لنهاية الحرب الباردة، وهذه الدول الثلاث روسيا، الصين، وإيران، وهي في الواقع متحالفة موضوعياً وواقعياً، وتحاول هذه الدول الثلاث التوسع في نطاقها الإقليمي، فالصين تتبع سياسة حازمة وتوسعية في بحر الصين الجنوبي، كما أن روسيا فعلت نفس الشيء بالنسبة لجورجيا وأوكرانيا، أما إيران فحدث ولا حرج، ولعل التوسع الإيراني الأنجح في الثلاثي، حيث تتمتع إيران بهيمنة أو نفوذ على العراق ولبنان وسوريا واليمن.
هناك تشكيك كبير بالحدود الموروثة من الاستعمار في المنطقة العربية، فظهور حركة داعش على الساحة الإقليمية ألغت عملياً الفواصل بين العراق وسوريا، وانهيار بعض من الدول العربية ينذر باحتمالات تغير حدود سايكس-بيكو والتي وزعت مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في منطقة الهلال الخصيب قبل قرن من الزمن، ومن ثم أصبحت هذه التقسيمات الحدود المعترف بها دولياً.
ومازالت الجغرافيا تلعب دوراً محورياً في السياسة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، فالحدود السياسية بين دول المنطقة تمثل بؤراً ملتهبة قابلة للانفجار، وقد تسببت مشاكل الحدود في حروب جمة أبرزها الحرب الإيرانية-العراقية الدامية والتي استمرت ثماني سنوات لتلد حرب حدودية أخرى والتي غزا فيها العراق الكويت والتي مازالت تعاني من أثارها.
هناك جيوبولتيك الملل والنحل في المنطقة، فالحدود السياسية لم تراع التشكيلات الإثنية أو الطائفية في منطقة الشرق الأوسط، ورغم أن هذه الطوائف تعايشت ردحاً من الزمن، وفي معظمه بكثير من الوئام، إلا أن هناك صراعات طائفية وإثنية مستمرة في المنطقة، ولعل مثال لبنان والذي عانى من حرب طائفية في القرن المنصرم شاهد على هذه الحقيقة مما مكن القوى الخارجية من أن تنفذ إلى بنية المجتمع، ومازالت.