ماذا بعد سقوط عولمة جورج بوش؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحديث هنا عن النظام السياسي العالمي الجديد، الذي فرضه من جانب واحد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، مستفيداً من إرهاصات انهيار المعسكر الاشتراكي، ومؤشرات سقوط الثنائية القطبية في إدارة شؤون العالم، مع انتصار المعسكر الرأسمالي الغربي في الحرب الباردة، ومن ثم هيمنة الولايات المتحدة على شؤون العالم، مستفيدة في ذلك من قوتها العسكرية والاقتصادية والثقافية والعلمية الهائلة.

ولكن الظروف الراهنة تحتم بناء نظام سياسي دولي جديد، يستجيب لكثير من المتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية، بحيث يحقق الكثير من التوازن العالمي والعدالة الدولية، ويحفظ السلم والأمن الدوليين بآليات أكثر فعالية من تلك القائمة في الوقت الراهن.

وأغلب الظن أن النهايات التي ستكتب أو التي ستنتهي عليها صراعات العالم في الوقت الراهن، ستلعب دوراً حاسماً في تحديد شكل النظام السياسي العالمي الجديد المنشود أو المتوقع.

قد يكون من المناسب أن نشير إلى أن «النظام العالمي الجديد» مصطلح استخدمه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، كما سبق الذكر، في خطاب وجهه إلى الأمة الأميركية بمناسبة إرسال القوات الأميركية إلى الخليج، بعد أسبوع واحد من نشوب أزمة الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990.

واعتبر دعاة النظام العالمي الجديد آنذاك، أن ما يدعو إليه النظام الجديد، وهذه الأفكار التي مثلت في ما بعد الأساس العملي لنظرية العولمة الأميركية في حكم العالم، هو شكل من أشكال تبسيط العلاقات وتجاوز العقد التاريخية والنفسية، والنظر للعالم باعتباره وحدة متجانسة واحدة.

وحسب رؤيتهم، هو «نظام رشيد» يضم العالم بأسره، فلم يعد هناك انفصال أو انقطاع بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية وبين الداخل والخارج، وهو يحاول أن يضمن الاستقرار والعدل للجميع.

وحقيقة الأمر، أنه لا يمكن التعامل مع هذا الأفكار أحادية الجانب التي تم فرضها من قبل البيت الأميركي في ظروف سياسية معينة يمر فيها العالم، على أنها أسس لنظام سياسي عالمي جديد، كونها مجرد مجموعة من القيم الكونية المراد ترويجها لإزالة الحدود بين الدول، حتى وإن تطلب ذلك إسقاط السيادة المحلية للدول.

وأكبر دليل على ذلك، الحروب العديدة التي اندلعت في ظل التوجهات الجديدة، وعجز المؤسسات الدولية، وعلى رأسها بالقطع الأمم المتحدة، عن تسوية الصراعات العديدة في العالم، علاوة على إصرار الولايات المتحدة على الانفراد بإدارة شؤون العالم، حتى ولو كان ذلك على حساب تجاوز قرارات مجلس الأمن.

وتجاهل قواعد ومبادئ القانون الدولي في بعض الأوقات، على غرار ما حدث في الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وأخيراً الضربات الصاروخية الأميركية للأراضي السورية، بدون أي تفويض من أي جهة دولية.

لقد رأى زبيجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، قبل سنوات قليلة، أن العالم يواجه تحدياً مشتركاً، أبرز ملامحه تعرض السلام العالمي للتهديد، ليس بسبب التعصب الأيديولوجي، وإنما بسبب تشابك غير مستقر متأصل في ظاهرة الصحوة السياسية العالمية غير المستقرة، وكذلك انطلاقاً من حقيقة أنه في عصرنا هذا يمكن تعزيز الاستقرار العالمي فقط عن طريق التعاون واسع النطاق، وليس من خلال الهيمنة الإمبريالية.

ويؤكد أن الصعوبات الكامنة في صياغة استجابات عالمية مشتركة للأزمات السياسية والاقتصادية، تهدد بظهور فوضى دولية لن تستطيع ألمانيا ولا روسيا ولا تركيا ولا الصين، ولا حتى الولايات المتحدة وحدها أن تقدم لها استجابة فعالة.

هذه الحقائق تترسخ يوماً بعد يوم على أرضية الميدان العالمي، حيث بات الفشل الأميركي في قيادة العالم بشكل منفرد أمراً جلياً، وبالقطع هناك حاجة الآن لنظام سياسي عالمي جديد، يعترف بتلك الحقائق.

وعلى رأسها وجود قوى كبرى أخرى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وبشرياً وتجارياً، بمقدورها أن تغير الكثير من الحقائق ومجريات الأحداث على الصعيد العالمي، مثل الصين وروسيا والهند، وبالتأكيد الكتلة الأوروبية.

ومن ثم يجب أن تكون لها صوت مسموع وقرارات نافذة على الصعيد العالمي، وحتى القوى الصغيرة الأقل حجماً والأضعف تأثيراً، وتتمركز بشكل أساسي في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، تحتاج إلى رؤية دولية مختلفة تماماً في التعامل معها، ومعالجة مشكلاتها بكل جدية، لأن القوى الكبرى تحتاج إلى أسواقها ومواردها الضخمة، ما يجعل من العدالة الدولية أن يتم تطوير وتنمية هذه الدول تنمية شاملة بمساعدات فعالة من القوى الكبرى.

ليس هذا فحسب، ولكن من المحتم إقرار القوى الكبرى بفشل النظام السياسي العالمي الذي ولد من رحم الحرب العالمية الثانية، وتم تعديله في أعقاب انهيار المعسكر الشيوعي، وعجز هذا النظام عن حماية السلم والأمن الدوليين بإرادة سياسية حقيقية، وآليات فعالة لمعالجة الأزمات الدولية الكبرى، ونزع فتيلها في مراحل مبكرة.

ولا شك في أن مثل هذا الاعتراف، سيترتب عليه البحث عن آليات جديدة ومؤسسات سياسية دولية مختلفة، سواء بتطوير تلك الموجودة بالفعل تطويراً هيكلياً شاملاً، أو إنشاء أخرى جديدة وبديلة لها، وفقاً لقواعد متطورة تلبي احتياجات المنظومة السياسية الدولية بشكل أكثر عملية وفاعلية.

 

Email