دبي وإرثها البحري

ت + ت - الحجم الطبيعي

الناظر إلى الخريطة الحديثة لدبي، يرى المدينة وقد تحولت إلى جزيرة تحيط بها المياه من جميع النواحي، فالقناة المائية، التي شقت مؤخراً، أكملت الحزام البحري، وجعلت من دبي جزيرة مرتبطة بمحيطها، إما بجسور أو أنفاق اصطناعية، الأمر الذي يجعل من دبي مدينة محاطة بالمياه من كل صوب.

هذا المتغير الطبوغرافي، ليس وليد فكر اليوم، بل هو نتاج طبيعي لحركة دؤوبة، وإرث تاريخي من التواصل مع الآخر اقتصادياً وثقافياً، وحتى جمالياً، فمن يقرأ تاريخ دبي لا يرى إلا حركة نشطة تتوافق مع سمعتها كميناء تجاري ومركز اقتصادي يربط الشرق والغرب، وميناء ترانزيت تمر عبره احتياجات البلدان المجاورة، بما يحمله ذلك المرور من فائدة لدبي ولجوارها. وقد تميزت دبي دوماً بحركة تسبق عصرها، وبمقاييس تنموية مغايرة لما كانت تشهده تلك الحقب من مقاييس.

من بداية تكوينها، كانت دبي تزهو بخورها النشط الذي قسمها إلى قسمين: بر دبي وديرة. وتميز كل قسم بملامح اجتماعية ومظاهر اقتصادية جعلته مميزاً عن الآخر، فقد كان بر دبي مقراً لسكنى العائلة الحاكمة ومقر الإدارة السياسية والإدارية، بينما كانت ديرة مقر النشاط الاقتصادي. وكانت مياه الخور هي الحد الفاصل الذي يفصلهما، كما كانت تمثل الشريان النابض بالحياة الذي يضخ الحركة والنشاط في إمارة دبي بكاملها.

من جانبها، أدركت الجالية التجارية، التي عاشت على ضفتي الخور، أهمية هذه المياه التي تحيط بدبي، ودورها في التواصل الاقتصادي والثقافي مع الجوار الإقليمي، فعوضاً عن أن تكون عائقا جغرافياً، أصبحت موصلاً مهماً للثقافات ولغة الحوار الاقتصادي، وشرياناً يضخ كل يوم دماء جديدة إلى أرض الإمارات، إذ على ضفتي الخور كانت السفن التجارية ترسو محملة بضائع من الهند وفارس، بينما تحمل سفن أخرى بضائع الإمارات، مثل التمور والسمك المجفف والسكر المصدر إلى البلدان المجاورة.

لقد امتهن الأهالي في فترة ما بين الحربين، بالإضافة إلى الغوص لاستخراج اللؤلؤ، الاستيراد والتصدير. وهذا النوع من التجارة يحمل بين طياته الكثير من المعاني، فقد عرف أهل الإمارات احتياجات الجوار الإقليمي، وبالتالي، طوعوا هذه المعرفة لخدمة تجارتهم، ولتلبية الاحتياجات الاقتصادية لها. وفي نفس الوقت، تشكلت لدى الآخر فكرة مختلفة عن الجوار العربي، ولم يعد هذا الجوار صحراوياً قاحلاً، بل مركزاً اقتصادياً يضج ميناؤه بالحركة الاقتصادية والتواصل الثقافي لمنفعة لكل الأطراف.

لقد ضربت دبي في تاريخها الحديث، أنموذج تطويع جميل للجغرافيا، يصب في المنفعة الاقتصادية والتواصل الثقافي، وتجسيداً لتاريخ الإمارة البحري. فمن إنشاء الجزر الاصطناعية الثلاث التي أضافت لدبي بعداً جمالياً واقتصادياً مميزاً، إلى شق القنوات المائية الاصطناعية، التي حولت مدينة دبي إلى جزيرة كبيرة، إلى التواصل البحري مع الآخر.. كل ذلك جسد إرث وتاريخ الإمارات، وأضاف لدبي أبعاداً اقتصادية وسياحية وجمالية.

وبهذا، لم تكن الإضافة المائية الأخيرة مجرد قيمة جمالية، بل مورداً اقتصادياً وسياحياً كبيراً، وتجسيداً لتاريخ الإمارة وارتباطها بالبحر.

لقد كان قلة من الناس يعتقدون بإمكانية قدرة الإنسان على تطويع جغرافيته لخدمة تاريخه، بكل ما يحمله ذلك الفكر من انعكاسات على المستقبل، ولكن دبي أقنعت الجميع بأن ذلك ممكن، وبأن المستقبل بكل مجالاته، ما هو إلا امتداد للإرث الحضاري والتاريخي. وهذا ما ميز حركة دبي خلال العقود الماضية.

إن الاقتصاد هو المسير دوماً لحركة المجتمع، ولطالما كانت حركة الاقتصاد في دبي وراء الحراك الديموغرافي والاقتصادي والثقافي الذي حصل على هذه الأرض في العقود الماضية. واليوم، بفضل السياسيات المدروسة والاستراتيجيات الاقتصادية الموضوعة، تسير دبي من مرتبة إلى مرتبة أفضل منها، مدفوعة بالرغبة في التطوير، ومسايرة، ليس فقط روح العصر، بل وكذلك اعتماداً على الإرث البحري لأهل الإمارات.

إن التطور الحاصل في دبي الآن، ليس فقط تجسيداً لرؤى قيادتها السياسية الحالية، وليس امتداداً تاريخياً للحراك الاقتصادي الذي دار في هذه المنطقة قبل عقود، الذي ألهم القيادة السياسية، ولكن أيضاً هو حاجة إقليمية ودولية لأنموذج طموح مثل أنموذج دبي، فلو لم يكن هذا الأنموذج موجوداً لاخترعته دبي.

والعجيب أن «أنموذج دبي» أصبح اليوم أنموذجاً اقتصادياً يود الكثيرون محاكاته، ولكن نجاحه مرهون بعدة عوامل، يأتي على رأسها، الإدارة الناجحة.

Email