رسائل واشنطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

من ضمن ما قيل عن الضربات الصاروخية الأميركية على قاعدة الشعيرات الجوية السورية، أنها جاءت تزامناً مع اجتماع الرئيس الأميركي ترامب في فلوريدا مع الرئيس الصيني شي جين بينج، بهدف توجيه رسائل لبكين بإمكانية تكرار هذا العمل ضد كوريا الشمالية.

لا شك في أن الرسائل قد وصلت بالفعل، ولكن من الصعب جداً الحديث عن مدى تأثيرها وفعاليتها على ساحة الأزمة الملتهبة في شبه الجزيرة الكورية، التي تحكمها بكل تأكيد قواعد مختلفة تماماً عن تلك الحاكمة للأزمة السورية، ويبقى على رأس الحسابات المعقدة لعملية السلم والحرب في المنطقة، وجود التنين الصيني ومعه أطراف إقليمية لن تقبل بسهولة بأي ضربات عسكرية أميركية لكوريا الشمالية.

على رأس هذه الأسباب القائمة في الشرق الآسيوي، تأكيد الصين القوي والمتزايد على مكانتها كقوة كبرى على الصعيد العالمي خلال السنوات القليلة الماضية، وتجلّى ذلك بالفعل في تبني الرئيس الصيني، منهجاً أكثر وضوحاً من سلفه هو جينتاو، لإظهار بلاده في ثوب القوة العظمى.

تقترب العلاقات الدولية في شرق آسيا، على حد تأكيد دراسات استراتيجية عديدة، من بلوغ مرحلة تحول كبرى، لا تعكس صعود الصين الكبير فحسب، بل تحركاتها الجديدة أيضاً من أجل فرض رؤيتها الخاصة للنظام الإقليمي.

بدأت الصين في ذلك العام بالكشف عن أفكارها الخاصة بالدبلوماسية الإقليمية، وفي العام التالي، لخصت تلك الأفكار في عبارة «حزام واحد، طريق واحد»، وعلى الرغم من وجود عدد كبير من النقاط المبهمة في هذا الشعار، إلا أن الهدف، على ما يبدو، تمثل في تقديم عبارة واحدة قد تلخص الجوانب المتعددة لدبلوماسية الصين نحو الدول المجاورة لها، فمبادرة «حزام واحد، طريق واحد»، تتضمن الجانب المحلي المتمثل في تجنب الإنتاج والاستثمار المفرطين، ولكن ينظر من خلالها أيضاً على تحول الصين في نهاية المطاف إلى منافس للشراكة عبر المحيط الهادئ لتحرير التجارة التي يتم تشكيلها حالياً بين الولايات المتحدة واليابان ودول أخرى في منطقة آسيا المحيط الهادئ.

في غضون ذلك، نشأت شكوك حول قدرة آسيان في المحافظة على دورها المركزي كمحرك لعملية الاندماج الإقليمي في منطقة شرق آسيا، في وجه الرؤية الجديدة التي اقترحتها الصين، وتأكيدها القوي على مطالبها بشأن حدودها في بحر الصين الجنوبي، وهذا لا يعكس بروز أطر عمل جديدة ومفاهيم مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومبادرة «حزام واحد، طريق واحد» فحسب، بل حقيقة أن آسيان قد شعرت بصعوبة التعامل بفعالية مع نزاعات الحدود بين الدول الأعضاء فيها من جانب، والصين من جانب آخر، وهو الأمر الذي أدى إلى إثارة تساؤلات عن آسيان بحد ذاتها، وفكرة التعاون الإقليمي لدولها.

لا تتوقف التحولات الكبرى الداعمة لمكانة الصين الإقليمية والدولية، عند استراتيجياتها الجديدة على الصعيد الخارجي، ولكن تواكبها أيضاً إصلاحات داخلية عميقة، لا تستثني الأوضاع السياسة والاقتصادية بمختلف مجالاتها والاجتماعية، وكذلك تلك المتعلقة بالجيش، حيث أعلنت بكين من قبل عن خفض عدد أفراد القوات الصينية بثلاثمئة ألف فرد.

كل هذه العوامل مجتمعة، تؤكد أن الصين أصبحت بحق لاعباً أساسياً لا يستهان بقدراته وإمكاناته في بناء منظومة متكاملة للأمن الآسيوي بشكل عام، ليس هذا فحسب، ولكنها تكرس مكانتها كل يوم كقوة عظمى، ورقم صعب في معادلة السياسة العالمية، ما يسهل الوصول إلى نتيجة مفادها أنه من الصعوبة بمكان، أن تتمكن واشنطن من تغيير ثوابت المنظومة الأمنية في شرقي آسيا من جانب واحد، وحتى إذا كانت رسائل ترامب الحازمة قد وصلت بكين عبر سوريا، فليس معنى ذلك أنها ستكون مؤثرة، أو ستجد آذاناً مصغية.

Email