لماذا ضربت واشنطن قاعدة سورية ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

حتى بدايات القرن العشرين ظلت الولايات المتحدة - كما هو معروف وفقاً لمبدأ جيمس مونرو- بعيدة عن الانخراط في الصراعات الدولية والأزمات العالمية، منكفئة على ذاتها في نصف الكرة الأرضية الغربي، حتى كان السابع من أبريل 1917 عندما قرر الرئيس الأميركي آنذاك »وودرو ويلسون« إسقاط هذا المبدأ وتغيير العقيدة الأمنية في أكبر تحول في تاريخ بلاده بإعلانه دخولها الحرب ضد ألمانيا على وجه التحديد.

المقصود من التذكير بهذه الحقيقة التاريخية الثابتة الإشارة إلى أن دخول واشنطن ساحة المعارك جاء متأخراً وبعد سنوات من اندلاع الحرب (1914) وبعد مرحلة طويلة من التردد والترقب وغياب الحلول والخطط العالمية لإنهاء القتال.

إلا أن الضربات الأميركية جاءت حاسمة، وأغلب الظن أن هذا الأسلوب الأميركي تحول من وقتها إلى ما يشبه المنهج المتبع في التعامل مع كثير من الأزمات والحروب العالمية.

هذا المنهج ذاته تكرر مجدداً في الحرب العالمية الثانية (1939 1945)، حيث ظلت واشنطن بعيدة عن مجرياتها سنوات عدة حتى اضطرت إلى دخولها بعد تدمير الأسطول الأميركي في حادث بيرل هاربور الشهير بقذائف وقنابل المقاتلات اليابانية عام 1942.

وسواء أكان الحادث استهدف جر الولايات المتحدة لدخول الحرب أم أن واشنطن استغلته إلى أقصى درجة لتعظيم مكاسبها وفرض هيمنتها إلا أن النتيجة المؤكدة أن دخولها الحرب مثل تحولاً استراتيجياً هائلاً لصالح الحلفاء في مواجهة دول المحور وخاصة ألمانيا بينما تكفلت الولايات المتحدة بإنهاء الحرب كلية بضربة هي الأعنف في تاريخ البشرية حتى الآن عندما سحقت اليابان وأجبرتها على الاستسلام.

في مراحل زمنية لاحقة لم تستبعد واشنطن هذا الأسلوب العنيف في التعامل مع كثير من صراعات العالم مستفيدة في ذلك من قوتها العسكرية والاقتصادية الطاغية، مع الأخذ في الاعتبار بالتأكيد طبيعة الظروف السياسية العالمية وطبيعة التوازنات الاستراتيجية وموازين القوى الدولية وكذلك حسب بوصلة المصالح.

وقد مارسته الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ذلك التاريخ بشكل أو بآخر في مناطق مختلفة من العالم ومن بينها الشرق الأوسط التي يمكن رصد مناسبات عدة لم تتردد واشنطن في تبني النهج ذاته لإنهاء صراعات أو حروب تفجرت في فترات زمنية متفاوتة لأسباب مختلفة، وكانت المناسبة الأولى حرب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وخلال حرب أكتوبر 1973.

على الصعيد الخليجي كان المنهج ذاته حاضراً، وكانت »ضربات الحل« هي الوسيلة التي اتبعتها واشنطن لإنهاء صراعات تحقيقاً لمصالح ذاتية، وأبرز تلك الضربات ما حدث في عام 1988 عندما أسقطت الصواريخ الأميركية طائرة الركاب البوينغ الإيرانية ومقتل جميع ركابها، مما جعل طهران تعلن قبولها بوقف الحرب مع العراق.

ووقتها قال مرشد الثورة الإيرانية الخميني إنه كمن يتجرع السم بقبوله هذا القرار، ولكن ما من شك في أن الضربة الأميركية العنيفة كانت تحولاً استراتيجياً أدى إلى وقف الحرب العراقية الإيرانية بعد ثماني سنوات من المعارك الطاحنة بين البلدين، وارتدت ثوب المخلص مرة أخرى بعيد الغزو العراقي الغاشم للأراضي الكويتية عام 1990 .

وكانت عاصفة الصحراء هي العملية التي هيمنت من خلالها على الأحداث وسط ظروف وتطورات معلومة للجميع ولكنها أكدت مجدداً قدرتها على الحسم للصراعات بوسائلها الخاصة متى اقتضت مصالحها ذلك.

على الصعيد الأوروبي وبعد انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي عموماً لجأت الولايات المتحدة للمنهج المتبع وطبقته في تسعينيات القرن الماضي على حرب البلقان المتعلقة بتفتيت يوغسلافيا السابقة إلى جمهوريات عدة.

حيث تركت واشنطن الصراع يتأجج في أشكال وحشية وعلى ما يبدو أنها تعمدت إظهار الأمم المتحدة في ثوب المنظمة الفاشلة العاجزة عن فرض أي تسوية للحرب برغم وجود قوات دولية في البوسنة والهرسك شهدت مذابح مروعة تحت سمعها وبصرها دون أن تحرك ساكناً.

وعندما كشفت واشنطن للعالم حقيقة وأبعاد هذا الفشل الذريع، قررت إدارة الرئيس بيل كلينتون الدخول بكل ثقلها لإنهاء الحرب فكانت ضرباتها المتلاحقة لصربيا وفرض اتفاق التسوية.

العرض التاريخي السابق لجملة من الوقائع والأحداث الدولية عبر نحو مائة عام بالتمام والكمال وقد يكون من المناسب تسميتها بـ »قرن المكيافيلية الأميركية« هو محاولة للاقتراب من التحول الكبير الذي طرأ على ساحة الأزمة السورية متمثلاً في الهجوم الأميركي المفاجئ على قاعدة »الشعيرات«.

والذي قرأ عشرات المحللين والاستراتيجيين من خلاله رسائل أميركية عدة، يمكن أن نضيف إليها التحليل السابق حول ضربات واشنطن العنيفة في توقيتات معينة لإنهاء الصراعات والحروب التي عجزت القوى الدولية منفردة ومجتمعة عن تسويتها.

ومن دون استباق الأحداث يجوز التعامل مع هجوم »الشعيرات« على أنه مقدمة حقيقية لضربة حل أميركية لتسوية الأزمة السورية بعدما أخذت مداها واستمرت سنوات طويلة مع فشل كل الجهود الدولية والإقليمية لتسويتها، وقد يساعدها على ذلك بالفعل محدودية الخيارات الاستراتيجية الروسية على أرض الواقع والتي على أساسها قد ترى واشنطن أن الساحة مهيأة أمامها لتسوية الصراع وفقاً لرؤيتها وعلى طريقتها الخاصة.

 

Email