العالم يتغير حول مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما نتخذه من قرارات يومية لا يأتي من فراغ، هناك أهمية بالطبع للكيفية التي تتخذ بها القرارات السياسية والاقتصادية التي تؤثر في حياة المواطنين، وهذه الكيفية متأثرة دوماً بالاحتياجات والمصالح الوطنية، ولا جدال أن البيئة الداخلية في مصر تلقي بظلالها على متخذ القرارات.

ولكن البيئة الخارجية لهذه القرارات لا تقل أهمية، ورصدها والحساسية تجاهها واجبة ليس فقط لصانع القرار، وإنما أيضاً للرأي العام المصري؛ وسواء أردنا أو لم نرد فإن مصر بنت بيئتها وموقعها الجغرافي.

حالة الشرق الأوسط غير المستقرة تلقي بظلالها على دول المنطقة؛ وحالة التوتر والصراع في النظام الدولي كله تؤثر سلباً وإيجاباً على مصر ايضا.

سوف نترك البيئة الداخلية والإقليمية على أهميتهما البالغة جانباً هذه المرة، وسوف نرصد عدداً من الأحداث المهمة في النطاق الدولي جرت كلها خلال الأسبوع الماضي، أولها قصف الولايات المتحدة لقاعدة جوية سورية بعد اتهام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية؛ وثانيها توجه حاملة طائرات أميركية ومجموعتها القتالية في اتجاه بحر الصين الجنوبي نحو كوريا الشمالية التي تذيع أنها بصدد تجارب جديدة للصواريخ التي تصل إلى الولايات المتحدة فضلاً عن اختبار قنابل نووية؛ وثالثها استخدام الولايات المتحدة «لأم القنابل» ـ أضخم القنابل غير النووية ـ لتدمير قاعدة لداعش في أفغانستان.

ما الذي يعنيه ذلك كله بالنسبة لنا. أولاً أن النظام الدولي سيدخل مرحلة جديدة من العنف والتوتر وربما الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو. انتهت مرحلة أوباما والانسحاب الأميركي من العالم، وخاصة الشرق الأوسط، وأصبح هناك في البيت الأبيض من هو على استعداد لاستخدام القوة العسكرية، بكثرة وبغزارة.

مثل ذلك قد يعني تحولاً كبيراً في إدارة ترامب من «العزلة» إلى «التورط»، ومن السعي للتوافق مع روسيا للوصاية على العالم معاً إلى المنافسة بأشكال متنوعة. بداية هذا التحول ظهرت من داخل إدارة ترامب عندما لم يذهب فقط «مايكل فلين» مستشار الأمن القومي السابق فقط، بل ومعه تراجع «ستيف بانون» المستشار الاستراتيجي الأيديولوجي للرئيس؛ وإنما فوق ذلك صعود نجمي وزير الدفاع «ماتيس»، ومعه، وربما الأكثر أهمية، «ماكماستر» مستشار الأمن القومي حالياً.

هذا الأخير من أبرز القيادات العسكرية الأميركية التي ظهرت هذا القرن من خلال القدرات العملياتية الكبيرة، والموهبة النظرية في فن الحرب التي ظهرت في كتبه ودراساته.

إن قيام الولايات المتحدة بقصف القاعدة الجوية قرب حمص في سوريا حدث بينما يتناول الرئيس الصيني شي جين بينغ وزوجته طعام العشاء في المنتجع الخاص بدونالد ترامب ـ وارا لاجو ـ في فلوريدا، وعندما كان الرئيسان والزوجتان يتناولون الحلوى، جاءت الإشارة إلى الرئيس الأميركي بانطلاق الصواريخ في اتجاه أهدافها، فقام بإبلاغ الرئيس الصيني؛ ولم تكن هناك مفاجأة كبرى بعد ذلك أن الصين امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن.

لم تكن الصواريخ رسالة فقط إلى النظام السوري، بل كانت موجهة إلى روسيا والصين وكوريا الشمالية؛ ومن يعلم ربما العالم كله.

أن تغيرات ترامب لم تكن تتعلق فقط بروسيا والصين، وإنما العودة إلى حلف الأطلنطي مرة أخرى والذي سبق وصفه بأن الزمان تخطاه، فما الذي حدث في فكر الرئيس الأميركي، وهل هو تغير حقاً بهذه السرعة، أم أنه يريد عقد الصفقة الكبرى مع بوتين وفي يده أوراق كثيرة تتيح له ترتيبات تجعل أميركا متقدمة وقائدة على العالم؟ أم أن الأمر كله ليس بهذه الحكمة، وإنما هي حزمة من التخبطات التي تأتي إلى الرئيس الأميركي حسب الزمن والساعة؟ مثل ذلك لا يبدو ممكناً، ولكن لا يمكن استبعاده من الحسابات، فالرجل لا يخل من اندفاع، وقرارات اتخذها غير محسوبة، وفي كل الأحوال فإن المؤسسات الأميركية، بما فيها الكونغرس والإعلام، تلهث وراءه بحثاً عن الحكمة الغائبة.

مصر كان عليها مواجهة هذه التغيرات السريعة خلال الأيام القليلة الماضية، وظهر ذلك في تحديد موقفها التصويتي في مجلس الأمن، حيث لا يكون التصويت بالإيجاب أو السلب له ثمن، وإنما أيضاً الغياب أو الامتناع عن التصويت، لهما أيضاً ثمن.

عندما يتجه النظام الدولي إلى مزيد من العنف، ودرجة أعلى من عدم الاستقرار، وبزوغ الحرب الباردة مرة أخرى ليس كما عرفناها في الماضي، وإنما وفق معطيات القرن الواحد والعشرين؛ فإن فرصاً ومخاطر تبزغ أمام مصر تحتاج كثيراً من العلم والمعرفة والحكمة والوضوح التام لمصالحنا وأولوياتنا. تلك هي المسألة.

Email