عقل الدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما المقصود بعقل الدولة؟.

لست ممن يتبعون القول بأن الدولة تشبه الكائن الحي، بل هي أقرب إلى البنية التي يقوم كل عنصر من عناصرها بتوظيفه داخل هذه البنية.

سلطة الحكم في أي دولة، هي بمثابة عقل البنية الذي يفكر، ويتخذ القرارات الضرورية لاستمرار الدولة واستقرارها والحفاظ على أمن مواطنيها وسيادة أرضها، وإقامة العلاقات مع الدول الأخرى، بما يحقق مصالح الدولة.

ولكن هذا الكلام المجرد والصحيح من حيث المبدأ، لا ينطبق على جميع الدول بشكل واحد ومتشابه، فلكل نمط من الدول عقل بارتباط بجغرافيتها وعدد سكانها وثرواتها وحجم مصالحها، وأدوات تحقيق هذه المصالح.

التاريخ عرف دائماً ويعرف أنماطاً متعددة من الدول، وبناءً على التجربة التاريخية والمعاصرة، باستطاعتنا أن نحدد الأنماط التالية:

أولاً: الدولة الإمبراطورية، وهي الدولة التي تتميز بفائض من القوة العسكرية والاقتصادية.

عقل الدولة الإمبراطورية، هو عقل هيمنة وتوسع والاستخدام التعسفي للقوة، إن دعت الحاجة إلى ذلك، والنموذج الأبرز لهذا النمط قبل الحرب العالمية الثانية، هو فرنسا وبريطانيا، أما الآن، فهو الولايات المتحدة الأميركية أولاً، وروسياً ثانياً، وقد تكون الصين مؤهلة لذلك.

ما يميز العقل الإمبراطوري، أنه ينظر إلى دول العالم كله على أنها حدود أمبراطوريته، وبالتالي، فإن مفهوم السيادة هنا لا يتعلق بسيادة إمبراطوريته على أرضها، بل بسيادتها على العالم.

هذا الذي يفسر السياسة الأميركية والسياسة الروسية الآن.

الدولة القوية إقليمياً، وهي الدول ذات العقل الذي ينظر إلى الإقليم المجاور له، على أنه مجاله الحيوي، النموذج الفاقع في الخمسينيات والستينيات، مصر الناصرية، حيث كان عقل الدولة آنذاك ينظر إلى الوطن العربي كله وأفريقيا، على أنهما مجال هيمنته.

الآن، هناك دول متدرجة في قوتها الإقليمية من دول أوروبا الكلاسيكية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا)، إلى الصين والهند، مروراً بتركيا، إيران، السعودية وما شابه ذلك.

فالصين تعتبر كل جنوب شرق آسيا مجالها الحيوي، وإيران تنظر إلى العرب وآسيا الوسطى كبلدان نفوذ، وتركيا تنافس إيران في المنطقة الجغرافية نفسها. والسعودية بانتمائها للعرب، تجعل كل العرب موضعاً مهماً في سياستها، وهكذا.

أما الدول الصغيرة المكتفية بحدودها، فإن عقلها السياسي يسعى دائماً لتوفير شروط استقلاله واستقراره، وإن كلفه ذلك علاقات غير متكافئة مع الدول من النوع الأول والنوع الثاني.

تظهر مشكلات العلاقات بين الدول من النوع الأول، بسبب النزوع نحو الهيمنة على دول النوع الثاني، والصراع على المصالح في دول النوع الثالث.

في المقابل، وانطلاقاً من هذه الخارطة لعقول الدول، بما يتناسب مع حجمها وقوتها، فإن العلاقات الدولية والقانون الدولي، ليس أكثر من حالة شكلية.

الشريعة التي تحكم علاقات الدول ببعضها الآن، هي شريعة الغاب، ويجب الاعتراف بهذه الحقيقة المرة، حتى يتسنى للدول من النوع الثالث أن تفكر بمصيرها دائماً.

بالمقابل، فإن الدول ذات القوة الإقليمية، تعيش بدورها حالات من التوتر، بسبب الصراع على المجال الحيوي المشترك الواحد.

وهذا بدوره، ينعكس على العلاقات بين عقل الدولة الإمبراطورية، وعقل الدولة القوية إقليمياً، حيث حجم قوة الدول الإقليمية المحدود، لا يسمح لها بأن تتصرف خارج عقل الدولة الإمبراطوري، إلا بشكل محدود.

إن العرب بمجملهم، في وضعهم الراهن، هم من النوع الثالث، وبالتالي، فإن عقلهم السياسي منصب على كيفية اتقاء شر التناقض بين دول العالم الأول ودوّل العالم الثاني.

لكن العرب قادرون، فيما إذا ما توصلوا إلى صيغة مؤسساتية، تنقل حالهم الراهن إلى حال التجمع السياسي الواحد، بأي صيغة فاعلة من الصيغة، فإنهم بالضرورة سيتحولون إلى جزء مهم من الدول الإقليمية القوية، وسيكون لهم مكان في شريعة الغاب الدولية.

Email