مئوية الإمارات 2071

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الآفة الكبرى التي تصيب الكيان الحضاري للأمم هي ضبابية الرؤية وعدم وضوح الأهداف، وعدم القدرة على استشراف المستقبل أو الرغبة في ذلك، والاستئناس بالحاضر والنظر إليه بعين الإعجاب وليكن ما يكون بعد ذلك، وخاصة أن الرؤية المستقبلية هي شكل من أشكال تحمل المسؤولية تجاه أجيال قادمة لا يقدر عليها إلا أصحاب الرؤى الاستشرافية، القادرون على إدراك ما هو مقبل وتفكيك عناصره للتعامل معه بمنهجية وبصيرة، في الوقت الذي يملكون فيه القدرة والإرادة على الفعل، ورصد عوامل النمو والتقدم من معطيات حاضرة، لوضع رؤية للتعامل مع مستقبل لن يكون فيه مكان إلا لمن يملك أدوات التعامل معه.

إن الداء العضال الذي يصيب الأمم هو عدم النظر للمستقبل والتخطيط له وكأنها غير معنية به، وأن مشروعها الأساس هو الحاضر، وذاك أحد أهم أسباب حالات الغروب التي مرت بها قوى عظمى كانت إمبراطوريتها لا تغيب عنها الشمس، لكنها يوم أن غفلت عن النظر للمستقبل واعتزت بحاضرها فقدت مستقبلها وأفلت شمسها، وظلت تبحث عن شروق لن يكون إلا بالتخطيط للمستقبل.

من هنا كان إطلاق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «مئوية الإمارات 2071»، التي تشكّل برنامج عمل حكومياً طويل الأمد، مستمداً من المحاضرة التاريخية لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لأجيال المستقبل، إذ رسم فيها سموه الخطوط العريضة لبناء إمارات المستقبل، وتجهيز دولة الإمارات للأجيال القادمة.

هذه المئوية التي تتضمن وضع استراتيجية وطنية تشمل محاور مركزة في البناء الوطني في مقدمتها تعزيز مكانة الإمارات عبر زيادة دعم وفاعلية قوتها الناعمة، ولا شك أن تلك القوة تحتاج إلى الاستمرار في تعظيم الرصيد الثقافي والحضاري للدولة دون توقف وبخطوات ثابتة ومتصاعدة، هذه القوة في يقيني هي جاذبة ورادعة، في الوقت ذاته جاذبة باعتبار الإمارات بيئة مواتية للإبداع، حاضنة للثقافات، ثرية في تكوينها الحضاري القادر على التعامل مع مختلف الثقافات على قدم المساواة تأثيرا وتأثرا أخذا وعطاء في إطار من الانفتاح على الآخر مع الحفاظ على الثوابت، القوة الناعمة للدولة قد تحقق من الإنجازات والنجاحات على أرض الواقع ما يتجاوز القوة الخشنة، كما إنها المحصلة والثمرة التي يتم قطافها بعد عقود من البذل والبناء في مختلف المجالات التنموية والثقافية، ليكون هناك نموذج قادر على التأثير في العقول والثقافات.

يلي ذلك البعد الحضاري بعد آخر اقتصادي وتنموي، يركز على العمل المتواصل على تعظيم موارد الدولة عبر مصادر متعددة بعيدا عن النفط، ولا شك أن الاستثمار في التعليم هو الخيار الحاضر والمؤثر والقادر على ضمان الرفاه الاقتصادي، والشاهد أن نماذج حضارية كبرى لم تكن يوما تملك من الثروات والموارد غير الإنسان القادر على التفكير والإبداع، ومن خلاله اقتحمت بجسارة كافة ميادين التنمية والتقدم.

إن التعليم كان ولا يزال مرتبطا بتحضر الأمم ومقياس قوتها الحقيقية، وبدونه لا يمكن التعويل على ثروات الحاضر أو مكانة مستقبلية، يتم من خلاله المزاوجة بين العلم والتكنولوجيا في عصر تعددت وتشابكت منصات العلم والثقافة للدرجة التي يصعب معها العزل بين عناصرها، ولن يكون في المستقبل مكان إلا لمن أخذ بأسباب العلم وبتطبيقاتها العملية من خلال الفكر المبتكر، الذي تعمل الإمارات في ميدانه ويغرد أبناؤها كل يوم من خلال تقديم الجديد في مجالات متعددة.

ولا شك أن لذلك كله انعكاسات على بناء منظومة إنتاجية متنامية تدعم الاقتصاد الوطني، يؤطر ذلك ويحافظ عليه تماسك مجتمعي يكون ظهيرا حقيقيا وداعما لهذه المنظومة التي لا يمكن لها أن تحقق نماء أو نجاحا حاضرا أو في المستقبل دون أن يكون النسيج المجتمعي متوحدا قادرا على الدفع والدعم والفعل والحفاظ على المكتسبات من خلال الارتكاز على القيم والأخلاق، التي بدونها تصبح الخطط التنموية كمن يبني قصورا من الرمال، لذا كانت الأخلاق في القلب من مئوية الإمارات 2071، لمَ لا وهل تصان الأمم وتبقى إلا بما قاله الشاعر «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت - فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا».

إن وضوح الأهداف هو الأساس للوصول إليها، وعلى قدر صفاء الرؤية يكون التعجيل ببلوغ القمة، فالضبابية تحول بين المرء وبين موضع قدمه، فما بالك بمن يرسم الطريق لمسيرة شعب. ودائما في الحروب هناك ما يسمى بالتكليف الاستراتيجي، الذي يعرف المقاتلون من خلاله الهدف والغاية من أعمالهم، وهو الأمر ذاته في معارك البناء التي هي أشد وأقسى، لذا كانت الغاية الكبرى لهذه الانطلاقة الحضارية «أن تعيش أجيال المستقبل حياة أسعد في بيئة أفضل ومع فرص أكبر وتواصل أقوى وأكثر تأثيراً مع العالم» وأكرم بها من غاية.

Email