المصالحة المستحيلة في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

سواء تأكدت صحة الأنباء التي تواترت في الأيام الماضية، أو شابها بعض الغموض أو المبالغة بشأن وثيقة «الإخوان المسلمين» الجديدة، حول إبرام مصالحة مع الدولة المصرية، مقابل عودتهم للعمل السياسي والاجتماعي، كما كانت الأمور في فترة حكمه، إلا أنه يجب التعامل معها باعتبارها مناورة مكشوفة، من جانب جماعة عرف عنها على مدار التاريخ، أنها «ملكة الصفقات البراجماتية».

حدث ذلك مراراً وتكراراً منذ نشأتها في عشرينيات القرن الماضي، حتى تمكنهم من الحكم والسلطة في مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي أوقعتهم في شر أعمالهم، وكشفتهم على حقيقتهم.

ولنتوقف تحديداً أمام الرئيسين الأخيرين، اللذين منحا الإخوان أضخم مساحة للعمل السياسي، السادات تحديداً، هو الذي أطلق سراحهم من القمقم، بعدما عرف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كيف يحجمهم في مكانهم الطبيعي، والحد من مخاطرهم، وبرغم ذلك، كان نصيب السادات القتل على أيدي جماعات خرجت من عباءة التنظيم الأكبر، والشيء ذاته بالنسبة لمبارك، مع اختلاف الآلية، فقد منحهم الرجل مساحة ضخمة للعمل السياسي، ودخلوا البرلمان في عهده بالعشرات، ولكنهم انقضوا عليه، بالتعاون مع واشنطن في ثورة يناير، فلوثا معا ثورة الشباب الطاهر، وانتهت الأمور بخلعه، ثم أطاحتهم هم بعد ذلك.

ليعودوا الآن مرة أخرى بصيغة جديدة، يهدفون من ورائها، ليس التصالح فقط، وإنما «تطويع» التاريخ لصالحهم، باختيارهم الحقبة النموذجية لصعودهم للعمل في ظلالها، وربما تكرارها، وهذه ليست المحاولة الفاشلة الأولى لهم، وأغلب الظن أنها لن تكون الأخيرة، ولكن لا نظن أن هذه المناورات ستنطلي على الدولة المصرية، والرهان هنا، كما سبق الذكر في مناسبة مماثلة، على كلمات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال حملته الانتخابية، ولا تزال ماثلة أمامنا وراكزة في عقولنا، وأهم ما قاله آنذاك، أنه لن يكون هناك وجود للإخوان في ظل حكمه، والمعنى واضح بكل تأكيد، ولا لبس أو غموض فيه، وأغلب الظن أن السيسي عندما أطلق هذا التصريح في أكثر من مناسبة، كان صادقاً بتأكيده على أن زمن الإخوان قد ولى بالفعل، أو أنه في طريقه للزوال.

أسباب موضوعية وسياسية عديدة تدفعنا إلى التأكيد على أن السيسي لم يكن مناوراً ولا مبالغاً، عندما أطلق هذه الصيحة في طريقه إلى كرسي الرئاسة، الأسباب ذاتها هي التي تمثل أساساً قوياً للاعتقاد بأنه لن يتنازل ولن يتراجع في موقفه المبدئي إزاء هذا الحديث الملتهب على الساحة المصرية.

على رأس هذه الأسباب، أن الشعب المصري جرب وعاش سنة من الجحيم في ظل حكم الإخوان، سرقت خلالها ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتمت أخونة الدولة ومؤسساتها الكبرى ومناصبها العليا، وفقد كرسي الرئاسة هيبته وقيمته مع هذا التفسخ الذي رأيناه يمارس على قمة هرم السلطة، وانقسمت مصر بشدة على أسس طائفية ومذهبية، وضرب الشقاق الدولة، حتى على مستوى الأسرة الواحدة، شخصية مصر التي اتسم بها الشعب، تم مسخها إلى حد دهشة الغالبية العظمى من المصريين لسرقة روحهم المألوفة، فضلاً عن أزمات طاحنة ومتتالية عاشها المصريون دون حلول، وهم يسمعون تفسيرات غريبة لها، ما أنزل الله بها من سلطان، مع غياب الرؤية المتكاملة لإدارة شؤون الدولة، ونقلها بشكل أفضل للأمام.

لن ينسى الشعب لهم مطلقاً ذلك الخطاب المتطرف الذي صدر عنهم، وأعطى الفرصة لمزيد من الجماعات المتشددة للسيطرة على الساحة السياسية والثقافية والإعلامية، كيف ينسى الشعب المصري تلك الأعمال الإرهابية التي صاحبت إنهاء الأوضاع المزرية في رابعة والنهضة، وحملات التخريب والحرق والتفجير والقتل وتعطيل المصالح والجامعات، وقطع الطرق وخلع خطوط السكك الحديدية، وإشعال النيران في القطارات ووسائل النقل العام وسيارات الشرطة، واستهداف رجالها وعناصر الجيش خلال أدائهم أشرف مهمة للوطن، كل تلك الأعمال اندفع فيها الإخوان فور عزلهم من الحكم، وكان أولى بهم أن يصححوا من أخطائهم ويصوبوا مسارهم، ويعدلوا أفكارهم وسياساتهم، حتى يطلوا على الشعب بوجه حضاري جديد، بدلاً من فتح جحيم الإرهاب على الأبرياء، وتعطيل مسيرة الدولة، والحيلولة دون انطلاقها لآفاق أرحب وأكثر تقدماً.

كل هذه الأشياء، تجعل من حديث المصالحة بين الإخوان والدولة المصرية، ضرباً من المستحيل، ببساطة شديدة، لو تحقق شيء من هذا، وهو أمر مستبعد بالكلية، فالمعنى الأكيد أو النتيجة المحتومة، تعني انهيار مشروع 30 يونيو، وغرق الدولة المصرية في تعقيدات جديدة، بينما هناك مؤشرات كثيرة تؤكد أن البلاد تستعيد عافيتها، وأن الأمن تحسن بطفرات هائلة، وعجلة الإنتاج بدأت في الدوران، وحالة الاستقطاب تراجعت بشدة، والوحدة الوطنية في أقوى صورها، بعد تراجع الانقسامات الطائفية المذهبية والسياسية.

أيضاً، بعد حصول مشروع 30 يونيو وزعيمه على اعتراف إقليمي ودولي، تجلى في مشاهد عديدة، أبرزها زيارات السيسي ومباحثاته في العواصم العربية والعالمية الكبرى، وإبرام صفقات تسلح لم تعرف مصر لها مثيلاً، حتى في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، أضف إلى ذلك، أن كل الشواهد تؤكد أن غالبية طاغية من الشعب المصري بالفعل، تلفظ الإخوان، وتتمنى لو شطبت سنة حكمهم بكل سوءاتها من سجلات التاريخ، وباتت الغالبية ذاتها ترفض رفضاً مطلقاً، ليس فقط عودتهم للسلطة، ولكن أيضاً إطلالتهم على الساحة السياسية.

Email