الجهلة في المناصب

ت + ت - الحجم الطبيعي

لدي الكثير من الدلائل على أن انتشار الأمية قد يكون أقل خطراً من انتشار أنصاف المتعلمين في العالم العربي.

قارن بين حالة المناخ الثقافي في العالم العربي، في النصف الأول من القرن العشرين، وبينه الآن، تجد أن الأعمال الثقافية كانت أكثر رقياً منذ مئة عام، وكذلك مستهلكي الثقافة، من قرار الكتب والصحف والمجلات، إلى مرتادي المسرح، كانت الأمية حينئذ أكثر انتشاراً بكثير منها الآن، ولكن أنصاف المتعلمين كانوا أقل وأضعف تأثراً.

خلال المئة عام الماضية، شهدت البلاد العربية تطورات سياسية واقتصادية كبيرة، من بينها ثورات ونظم جديدة للحكم، ترفع شعارات التوسع في التعليم والقضاء على الأمية، كان المطلب نبيلاً بلا شك، ولكنه انتهى للأسف بارتفاع كبير في نسبة أنصاف المتعلمين.

كانت السرعة في نشر التعليم أحد الأسباب، إذ لم يكن من الممكن أن نحصل بسرعة على العدد الكافي من المدرسين القادرين على القيام بالمهمة بالكفاءة اللازمة، ولكن الحراك الاجتماعي السريع، الذي جلبته هذه الثورات والانقلابات، أدى إلى تولية كثيرين من أنصاف المتعلمين مناصب مهمة، لم يكن يحتلون مثلها من قبل، فإذا بهؤلاء يمنحون فرصة للتحكم في المتعلمين والأميين وأنصاف المتعلمين، على السواء، فانتشر نفوذهم وزاد حظرهم.

نحن ما زلنا نشكو من أن الأمية ما زالت موجودة، إذا لم تنجح في محو أمية نحو ربع السكان، ولكننا نادراً ما نلتفت إلى أننا حولنا كثيرون من الأميين إلى أنصاف متعلمين، ليسوا أقل خطراً.

من أين بالضبط يأتي خطر أنصاف المتعلمين. إنه يأتي أولاً من جهل أنصاف المتعلمين بحقيقة ما حصلوه من تعليم وما لم يحصلوه، ومن ثم، فهم أقل تواضعاً من الأميين الذين يعرفون قدر أنفسهم، وحقيقة موقعهم في المجتمع، بل إن أنصاف المتعلمين كثيراً ما يكون لديهم من الغرور والتعالي، ما يزيد عما لدى الأميين أو المتعلمين على السواء، إذا يحاولون إقناع الناس وإقناع أنفسهم أيضاً، بما لا يتوفر لهم في الحقيقة، أو إثبات جدارتهم بمناصب ليسوا جديرين بها، أو الحصول على ثروة لا يستحقونها.

آثار التعليم الناقص كثيرة، من بينها ما لاحظته من كثر استخدام وصف كاتب بأنه كاتب كبير، أو حتى بأنه مفكر كبير، مع أنه قد يكون فقط كثير الكتابة، وهي ظاهرة نادراً ما توجد في البلاد الأكثر منا حظاً من التعليم ومن الديمقراطية، فتكرار ظهور أسماء بعض الأشخاص، في الصحف وسائر وسائل الإعلام، قد يخدع كثيرين، في مجتمع ينتشر فيه أنصاف المتعلمين، فيظنون أن هذا الظهور المستمر، دليل على اتساع الثقافة أو قدرة نادرة على التحليل، مع أنه قد يكون دليلاً فقط على التمتع بالنشاط الجسماني وحب الشهرة.

لاحظت أيضاً أن بعض هؤلاء الكتاب المشهورين، يعرضون بالضبط مدى تواضع قدراتهم ودرجة الخداع التي تنطوي عليها هذه الشهرة، إذ سرعان ما يظهرون التواضع في بعض المجالس التي لا تحمل لهم كل هذا التقدير، فيقللون من من غلوائهم، ريثما تفرج الضائقة ويعودون إلى التعامل مع «أنصاف المتعلمين» ممن وقعوا ضحية لهذا الخداع.

من بين الآثار المؤسفة أيضاً لانتشار أنصاف المتعلمين، أثرهم في اللغة القومية، لقد ظلت اللغة العربية الفصحى مثلاً، قروناً كثيرة تتمتع بحصانة وحماية، طالما استمر المجتمع منقسماً إلى شرعية ضئيلة للغاية من المتعلمين تعليماً راقياً، وبحر واسع من الأميين.

نعم، كان المنتمون إلى هذا البحر الواسع، بعيدين عن استخدام لغة قريبة من الفصحى، ولكنهم أيضاً لم يكونوا يهددون هذه اللغة الفصحى، مثلما أصبح يهددها أنصاف المتعلمين الذين يدأبون على استخدام كلمات غريبة (وكثيرا ما تكون قبيحة)، ويتجرؤون أكثر فأكثر (بحكم ما يقلونه من مهام ومناصب في وسائل الإعلام)، بل وحتى في المقررات الدراسية.

هكذا أدى التقدم الاقتصادي، أو ارتفاع مستوى المعيشة لشرائح واسعة من المجتمع، إلى الإضرار باللغة القومية، كلما كان هذا التقدم بعيداً عن ميداني الثقافة والتعليم، فقد أدى هذا التقدم الاقتصادي، للأسف، إلى ارتفاع نسبة أنصاف المتعلمين، فراحوا يعيثون فساداً، ولو بغير قصد، في استخدام للغة القومية، وكأن النهضة الاقتصادية لا بد أن تتعارض مع النهضة الثقافية، أو كان هذان النوعان من النهضة ينتميان إلى عالمين منفصلين، لا يمكن الجمع بينهما.

ولكن هذه هي، للأسف، طبيعة العالم الذي نعيش فيه: عالم متعجل قليل الصبر، وهو فضلاً عن ذلك، يعلي أكثر من اللازم، من شأن الأهداف الاقتصادية، ولو على حساب كل شيء آخر.

Email