ضيف برزة الاثنين!

ت + ت - الحجم الطبيعي

البشر لا تُعرَف قيمتهم إلا بوقفاتهم الكبيرة في المواقف الكبيرة، والمثاليات لا تعني شيئاً حتى توضَع على المحك وتختبر صِدْقَها المنعطفاتُ الصعبة، والتاريخ لا يُخلّد إلا أولئك الأفذاذ الذين يُعيدون توجيه بوصلته، كلما حاول الصغار حَرْفها، والأمة الجديرة بالحياة، هي تلك الأمّة التي يعرف أبطالها كيف يموتون لأجلها.

كان المجلس الكبير بقصر البحر، ممتلئاً عن آخره كعادة «برزة الاثنين»، تحدث صاحب الوجه البشوش والمحيّا الطلق، وقد أجلس بجانبه شاباً لم يعرفه أغلبنا: «هذا الريّال اسمه سعيد بن حميد الشامسي، زرته في المستشفى يوم وصل هو وإخوانه من أبطالنا الجرحى، سلّمت عليه ولاقاني بوجه مبتسم، لمّا قلت له الحمد لله على السلامة، زعل.. طالعني متغيّظ وقال يا محمد تكفى، رَبْعي في الجبهة وأنا هنيه وأبا أرد».

يستمر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في حديثه الحميم لحضور المجلس، الذي تزينه الآيات القرانية وصور زايد الخير، رحمه الله تعالى: «قلت له يا ولدي، أنت تعالج الحين، ويوم يركّبون لك يد صناعية يصير خير، قال أول شيء اليد الصناعية بتاخذ وقت لين تجهز، وساعتها بتكون الحرب قد خلصت، والشيء الثاني أنا أيمن، واللي انقطعت اليسرى وما أستخدمها!»، ليضج المجلس بدويّ تصفيقٍ غير مسبوق لموقف ذلك البطل.

ضيف البرزة وبطل ذلك الموقف، سعيد الشامسي، لم يكن مشتاقاً للعودة للتنزّه في حدائق الهايدبارك، أو التريّض على شواطئ ماربيّا، أو التسوّق بجادّة برودواي في مانهاتن، ولكنّه كان آتياً من بين فكّي الموت، وقد فقد ذراعه فداءً لوطنه وأهله ودينه، وكان يحسب الدقائق تحرّقاً للعودة لذات الميادين التي لا يتحرك فوقها إلا الرعب، ولا تتبختر عليها إلا سهام المنايا، يريد العودة بإصرار غريب، وهو يعلم تمام العلم أنّه لن يعود إلا بإحدى طريقتين: إمّا بنصرٍ مؤزر وكسر لشوكة قوى الشر ومَن وراءها، أو شهيداً تزفّه ملائكة الرحمن إلى جنّات الخلد بإذن الله تعالى.

كنت أرى في ملامح وجوه الجالسين حولي، و«بو خالد» يواصل افتخاره لموقف هذا البطل على الملأ، أنّ الجميع تمنّى أن يكون مكانه، أنْ يكون كلٌ منهم جبلاً يحمي الوطن، وسماءً تُظلّه، وأرضاً ترفعه وتُقِلّه، كانت الكلمات تتردّد من الحضور «كفو» «والنِعم» كلما تحدث عنه وعن إخوانه الميامين.

وهل يملك الإنسان أغلى وأعظم من روحه لكي يقدمها فداءً لوطنه، أولئك غرس زايد، وما رحل عليه سحائب الرحمة والمغفرة، إلا وقد أيقن أنّ للوطن رجالاً، وللراية رجالاً، ولردّ «عيلة العايل» رجالاً لا يُقارَنون ببقيّة الرجال!

أمسك «بو خالد» بهاتفه، بحث قليلاً ثم قرأ رسالةً نصيةً لسعيد، وهو يناشده فيها، وفي أُخَر غيرها، أن يأمر بإعادته للجبهة في اليمن، كانت نبرة سموّه بَيّنة الفخر بصنيع هذا البطل، وإصراره الذي لم ينثنِ لحظة، رغم ما أصابه، لكي يعود، يعود لشد عضد إخوانه، يعود لنصرة الضعفاء، يعود لكسر أنوف عصابات الظلام، لتعلم أنّه لا مكان لها ما دام في أنوف «مخاوين شمّ» زفرة هواء.

فبأمثال سعيد ينام الوطن آمناً مطمئناً، وبمثل هذه الروح الشجاعة، يتوارى الإرهاب وأصحابه والشر وصعاليكه بعيداً، وقمة النبل، أن يُعرَّف قَدْر المخلص على رؤوس الأشهاد، وأن يُشْكَر على تضحياته من أجل وطنه وأهله في أكبر محفل، فالقائد العظيم، هو ذاك الذي يقود القلوب قبل أن يقود الكتائب، والأمة العظيمة، هي تلك التي تُعلي شأن أبطالها وهم على قيد الحياة، قبل أن تُخلّدهم في صفحاتها البيضاء بعد رحيلهم.

موقف هذا البطل، لم يكن استعراضاً، أو محاولةً لتملّق أو متاجرة بقضية، بل كان موقف رجل ارتشف العزّة مِن صباه، وموقف أسد لا تزيده الجراح إلا رغبة هادرة في كسر من تجرأ على عرينه.

كان كما قال بو خالد في ذلك المجلس: «الريّال الصادق تعرفه من عيونه»، لم يحاول «كسر الخواطر» بفقدانه لذراعه، ولم يسعَ للتكسّب بالمصاب الذي حَلَّ به، بل كان ديدنه الذي لم يتوقف، أنْ تتمَّ إعادته للجبهة، فالرجال لا يعودون دون إنهاء ما بدؤوا، والأبطال لا يطيب لهم إلا دخان البنادق، ومخاوين شمّا لا يعرفون ترك شيء اسمه «قضية عالقة»!

الولاء ليس ثمرة تخرج بعد أن ترتفع الشجرة وتشتد، ولكنه جذور راسخة، عليها يقوم عماد الشجرة، وعليها مدار حياتها، والولاء ليس نتيجة لمحصلات إيجابية ومنافع شخصية أو جَمَعِيَّة، بل هو أساس تكوين الكيان وجوهره غير المشروط بأمور أخرى، الولاء للوطن، يعني أن لا ترى لروحك من قيمة بدونه.

ولا معنى لوجودك في غيابه، هو كما كان صنيع أجدادنا وآبائنا وهم يحمون حياض هذه الأرض، رغم أنها لم تكن سوى صحاري جرداء ملتهبة، ولا يُعقَل إطلاقاً أنّ نفرّط بها ونحن أبناء أولئك الرجال، بعد أن أصبحت جِناناً وبساتين نمى بها الخير وأثمر.

إنّ الأمم يُحدِّد مستقبلها ويُشكِّل حجمها ويُقدِّر وزنها بين بقية الأُمم أبناؤها، بِهِم تكون، وبوقفاتهم تقف، وبطيب فِعلهم تطيب، وبتضحياتهم تتدفّق في شرايينها دماء الحياة العزيزة، هم أولئك الرجال الذين وقفوا لتحمّل المسؤولية، ولم ينتظروا أن يُطْلَب منهم ذلك.

وهم أولئك الذين لا يسألون ما الذي يمكن أن يُقدّمه الوطن لهم، لأنهم مشغولون بما يجب أن يُقدِّموه هم له، هم أولئك الصادقون الذين لا يَخذلون ولا يتوارون من الأحداث العسيرة، ولا تتبدّل مواقفهم ووقفاتهم، هم من أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: «من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً».

 

 

Email