وماذا بعد سياسة الصبر الإستراتيجي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

اعتاد العالم بين وقت وآخر، على ظهور تعبيرات جديدة يمكن إدراجها ضمن قاموس الأدبيات السياسية النادرة، وربما كان أحدثها وأهمها، ما جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، قبل أيام قليلة، عندما صرح بأن سياسة «الصبر الاستراتيجي» تجاه كوريا الشمالية قد انتهت.

هذا التعبير الجديد «الصبر الاستراتيجي»، لا يفسر بنفسه، ولكنه يحتاج إلى مذكرة إيضاحية لحداثته، ولما سيترتب عليه من تداعيات تجاه كوريا الشمالية على وجه التحديد، أبرزها ما هدد به تيلرسون بأن واشنطن ستراجع جميع الإجراءات والخيارات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية تجاه كوريا الشمالية.

واقع الأمر أن تعبير «الصبر الاستراتيجي»، جاء في توقيت مهم جداً، حيث يتساءل كثيرون في هذا العالم، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه الأزمة الراهنة في منطقة شبه الجزيرة الكورية؟!.

قراءة طبيعة الأزمة الجديدة الناجمة عن تطورات وأحداث عديدة ومتلاحقة، تساعد كثيراً في الوصول إلى إجابات للتساؤلات السابقة، وفقاً للقواعد الحاكمة للصراع في تلك المنطقة الملتهبة بأقصى شرقي العالم، ومن جانبنا نتساءل، إذا كانت سياسات كوريا الشمالية مثيرة للتوتر في منطقة شرق آسيا إلى هذا الحد، ما بين إطلاق صواريخ باليستية وبناء قوة عسكرية ونووية هائلة، واغتيال مسؤولين كوريين شماليين داخل البلاد وخارجها، مهما كانت درجة القرابة أو الصلة بزعيم البلاد، لأسباب تتعلق بالفساد أو الفشل أو غير ذلك، يصبح التساؤل بالفعل مشروعاً، إلى متى يتحمل العالم مثل هذه الممارسات.. ولماذا؟.

لم تتردد كوريا الشمالية في أكثر من مناسبة بالتهديد بضرب وتدمير ولايات أميركية بالأسلحة النووية، وهي جهاراً نهاراً تعلن عن تجارب نووية، وإطلاق صواريخ باليستية متطورة، دون خوف أو محاسبة، باستثناء بيانات الشجب والإدانة المتكررة من جانب القوى الغربية، وسلسلة من العقوبات المتنوعة التي يبدو فشلها حتى الآن.

لكن في هذه الفترة، يزداد التوتر حدة في شبه الجزيرة الكورية بشكل متسارع، مع تجدد القصف المدفعي على الحدود من قبل كوريا الشمالية، التي أمر زعيمها كيم جونج أون، الجيش بالتأهب للحرب، فضلاً عن انطلاق مناورات عسكرية كورية جنوبية - أميركية، رغم تهديدات الشمالية التي أطلقت أربعة صواريخ على الأقل تجاه اليابان.

القراءة الاستراتيجية للمشهد الراهن، تؤكد أن كوريا الشمالية والولايات المتحدة، يمارسان هذه الأيام ما يعرف في حقل السياسة الدولية بنظرية المباريات أو استراتيجية الشد والجذب في العلاقات الدولية، بخليط من مفاهيم نظريات السياسة الدولية.

ولكن تهديدات الجارة الجنوبية أيضاً، شكلت مصدر قلق وخوف لدى الكثير من اللاعبين الأساسيين في لعبة المباريات الاستراتيجية، حيث أعلن الرئيس الكوري الشمالي أنه في حالة تعرض بلاده لضربات عسكرية من الجنوب وحلفائه، فسوف يستهدف القادة الكوريين الجنوبيين في مواقعهم مباشرة، من خلال رد صاعق.

من جانب آخر، يبرز الجانبان الروسي والصيني، ليشكلا معاً جزءاً من الفرق المتبارية في لعبة الاستراتيجية الآسيوية، والتي تتخذ من بحر الصين مسرحاً لها، هاتان القوتان مارستا دور المرشد والحكيم في مرات عديدة في كيفية إدارة مجريات اللعب الاستراتيجي، وممارسة التهديد الناعم للجار الكوري الشمالي، مع الحفاظ على خطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها.

ومرة أخرى، تظهر أهمية القوى الإقليمية الفاعلة في حفظ التوازن بين مختلف الأطراف، وأغلب الظن أن اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة نفسها، سوف تنصاع لقواعد اللعبة المتبعة في المنطقة، ما دامت تتحكم في خيوطها، ولم تخرج عن حدود السيطرة، ما يعني أننا مرة أخرى أمام مشكلة نمطية متكررة، حتى ولو أخذت بعض الأشكال المختلفة، التي قد تثير المخاوف، ولكنها لن تفجر الموقف برمته.

وتظل الصين هي العصا في الدولاب، التي تعرقل الاندفاع الأميركي نحو أي مغامرات غير محسوبة، وأكبر دليل على ذلك، إعراب الوزير تيلرسون عن أسفه بشأن إجراءات الصين الانتقامية ضد نشر منظومة «ثاد» في شبه الجزيرة الكورية، قائلاً إن تلك الإجراءات غير مناسبة ومؤسفة للغاية.

داعياً الصين إلى وقف تلك الإجراءات، حيث حظرت الحكومة الصينية سفر مواطنيها عبر وكالات السفر الصينية إلى كوريا الجنوبية، رداً على قرار سيؤول بنشر منظومة الدفاع الصاروخي الأميركي المتقدم في شبه الجزيرة الكورية.

وليس خافياً أن كوريا الشمالية تعتمد على التجارة الصينية والمساعدات لأجل الحفاظ على اقتصادها، وأن بكين لا تبدي أي رغبات في سحب هذا الدعم، فحوالي 40 % من قيمة العملة الأجنبية التي تستعملها الشمالية، خاصة لشراء السلع من الخارج، تأتي من شبكة من حوالي 600 شركة صينية، وفقاً لأحدث دراسة لمؤسسة أبحاث «سياري».

وهي مؤسسة استخباراتية مالية، مقرها واشنطن، وعند هذا الحد، لا يزال في مقدور كوريا الشمالية الاعتماد على بكين في مواجهة تهديدات واشنطن بنفاد «صبرها الاستراتيجي»، فالحسابات الإقليمية المعقدة، ستدفع واشنطن بالتأكيد إلى التفكير ألف مرة قبل تنفيذ تهديدها، وربما تضطر إلى تجديد مخزونها من الصبر الاستراتيجي إزاء هذه القضية على وجه التحديد.

 

 

Email