ما قبل آخر الثورات وما بعدها

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعم، التفاؤل يساعد على النهضة، بل قد يكون شرطاً من شروطها، كما أن التشاؤم يؤخر النهضة ويعطل تقدمها، لدي من الأدلة، من تاريخ مصر خلال المائة عام الماضية، ما يرجح هذا الاستنتاج.

هناك أولاً فترة عاصرتها وعشتها يوماً بعد يوم، وهي السنوات العشر التالية لثورة 1952، وتحقق هذا الفرح بصدور قانون الإصلاح الزراعي بعد أقل من شهرين من قيام الثورة، وبإلغاء الألقاب من باشوية وبكاوية، ثم بتوقيع اتفاقية جلاء الإنجليز عن قناة السويس، ثم تأميم قناة السويس وتحقق الجلاء بالفعل، ثم بتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، وإن لم تستمر هذه الوحدة طويلاً، ثم بصدور الإجراءات والقوانين الاشتراكية في 1961.

كان الفرح بكل ذلك عاماً وحقيقياً، مع الاعتراف بكراهية البعض لبعض هذه الإجراءات لمساسها بمصالحهم الشخصية، واعتراض البعض عليها لأسباب أخرى.

لقد صاحب صدور هذه الإجراءات التهليل المعتاد لأي شيء تفعله السلطة، من باب النفاق والتسلق، ولكن هذا لا يطعن في صدق ما شعر به غالبية الناس من فرح بهذه الإجراءات.

لا زلت أذكر أيضاً كم كان المناخ الثقافي رائعاً في تلك الفترة. ازدهر المسرح المصري فظهرت مسرحيات بديعة (كتلك التي قدمتها فرقة المسرح الحديث بإدارة زكي طليمات) لمع فيها لأول مرة بعض من أفضل ممثليها رجالاً ونساء، طوال العقود التالية، كما ظهرت مدرسة خلابة في الشعر ومدرسة جديدة رائعة في القصة القصيرة رائدها يوسف إدريس، وثلاثية نجيب محفوظ.

ظهر في هذه الفترة أيضاً (أي بين أوائل الخمسينات وأوائل الستينات) نوع جديد من الأغاني، رفيعة المستوى في كلماتها وموسيقاها، وحظيت بشعبية واسعة لصدق كلماتها وجمال ألحانها (هذا الجمال الذي نبع أيضاً من صدق المشاعر التي ولدتها).

أعتقد أن مناخاً شبيهاً بهذا ساد أيضاً في مصر في عقد العشرينات من القرن الماضي. إني لم أعايش هذه الفترة ولكني قرأت عنها ما يدل على ذلك.

كان الفرح حينئذ بسبب قيام ثورة 1919، وحصول مصر على الاستقلال في 1922، ودستور جديد رائع في 1923، وما أشاعه كل هذا التفاؤل بقرب تحقق نهضة عامة في مصر.

أليس من المؤكد أن أعمال طه حسين والعقاد والمازني والدكتور محمد حسين هيكل، في العشرينات والثلاثينات، كانت من أثار هذا التفاؤل؟

ألا يمكن أيضاً أن تضيف أيضاً نهضة المسرح على أيدي نجيب الريحاني ويوسف وهبي، والسينما على أيدي آسيا وعزيزة أمير، وتألق أم كلثوم وملحنيها العظام، وكذلك تألق محمد عبد الوهاب بأغانيه وموسيقاه؟

أظن أن شيوع الفرح والتفاؤل هو من أهم ما يمكن أن يقدم كتفسير للتألق الثقافي في مصر في هاتين الفترتين، فهل يمكن أيضاً أن نقول إن العقد التالي في الحالتين (الأربعينات في الحالة الأولى والسبعينات في الحالة الثانية) لم يشهد مثل هذا التألق بسبب انحسار هذا التفاؤل؟

لقد جلبت الحرب العالمية الثانية (39-1945) وما صاحبها وتلاها من تضخم، مخاوف وتوترات سياسية واجتماعية أضعفت الإنتاج الثقافي في عمومه، فشهدنا أحداث العنف الناتج عن التعصب الديني في كلا العقدين، والمزيد من التغريب المتهور في حياتنا الثقافية، فظهرت أعمال تستدر إعجاب شرائح اجتماعية صاعدة ولكنها أقل عمقاً وجمالاً مما كان سائداً قبل هذه الحرب، وتستجيب لأذواق أصحاب الثروات الجديدة التي تولدت من الحرب والتضخم فى إحدى الحالتين، أو من الانفتاح الاقتصادي المفاجئ في الحالة الأخرى.

ربما ساد الفرح صفوف الشرائح الاجتماعية الصاعدة حديثة بما حققته من نجاح اقتصادي، ولكنه كان فرحاً مختلفاً في طبيعته عن ذلك الذي ساد في الفترتين السابقتين عليهما، كان فرحاً بالصعود الاجتماعي السريع لطبقة بعينها، قليلة الحظ نسبياً من التعليم، وليس فرح الأمة كلها بتقدمها وقرب تحقيق آمالها. ثارت الآمال طبعاً من جديد بقيام ثورة شعبية في أوائل 2011، ولا يمكن إنكار ما ساد من فرح عام، ولا يمكن أيضاً أن ننكر أن هذا الفرح لم يستمر طويلاً.

كانت ثورة مما يمكن وصفه «بثورات آخر زمن»: غضبة شعبية واسعة النطاق حقاً، وتعبر عن مشاعر صادقة ومطالب حقيقية، ولكن لم تستطع أن تضع مطالب الناس موضع التنفيذ، ومن ثم سرعان ما زاد الشك فيها، وأخذ الشعور بالإحباط يحل محل التفاؤل الذي أثارته في البداية.

كان لا بد أن يظهر هذا في الحالة الثقافية أيضاً. صحيح أن هذه الثورة الأخيرة لم يمر أكثر من ستة أعوام على قيامها، ولكن هل نرى أي بوادر لتقدم ثقافي يعكس فرحاً عاماً بقرب تحقيق الآمال؟ لا تبدو أي بوادر من هذا النوع: لا في المسرح أو السينما، وفي الغناء والموسيقى، ولا في أي بدايات لتطورات واعدة في العلوم الاجتماعية أو الكتابات الإنسانية أو في وسائل الإعلام.

نريد أن يسود التفاؤل ونريد أن تتقدم حياتنا الثقافية والاجتماعية، كل منهما يغذي الآخر ويقويه، فمن أين يمكن أن نبدأ؟ لا أظن من الممكن أن نتوقع أن يسود الفرح والتفاؤل بالمستقبل قبل أن يرى الناس بعض بوادر التقدم في الحياة.

Email