من ستالين إلى ترامب

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يحتاج العمل الأدبي الكبير عادة إلى مناسبة خاصة حتى يعود إلى الأذهان، ومع هذا تبرز في الأسواق الأميركية والغربية في هذه الأيام ظاهرة لافتة لم تكن متوقعة لشهور خلت.

فعلى رغم أن رواية جورج أورويل الكبيرة «1948» تعود إلى الواجهة وتُطبع وتُقرأ من جديد بين الحين والآخر، إما لمناسبة حديث عن مؤلفها أو لذكرى تتعلق به، وإما قبل ذلك لحلول العام الذي يحمله عنوان الرواية المكتوبة عام 1948، أو لمناسبات تتعلق، مثلاً بحديث عن ستالين، الزعيم السوفياتي الدموي والمتسلط الذي سيقال دائماً أن لكتابة أورويل روايته علاقة به، على رغم هذا فإن عودة الرواية إلى الواجهة هذه المرة تبدو عودة استثنائية.

حيث تفيدنا صحيفة «نيويورك تايمز» بأن الرواية تحتل منذ يناير (كانون الثاني) المنصرم قمة لوائح الكتب الأكثر مبيعاً وأن طبعة أولى منها أنزلتها «منشورات بنغوين» إلى الأسواق أواخر الشهر المذكور تتألف من 75000 ألف نسخة نفدت خلال أيام، ما اضطر الدار إلى إصدار طبعتين جديدتين منذ ذلك الحين.

الحقيقة أن جورج أورويل لو كان حياً بيننا لكان أول المندهشين إزاء هذه الظاهرة المفاجئة. غير أن الظاهرة، أيّ ظاهرة، لا تعود كذلك حين تُكتشف خلفياتها ومسبّباتها.

وقبل ذلك، للوصول إلى شيء من التوضيح الإضافي، سيكون من المفيد أن نذكر أن انبعاث هذه الرواية مع عدد من روايات أخرى تماثلها في الموضوع وظروف الظهور – وأبرزها «مزرعة الحيوانات» لأورويل نفسه، و«أفضل العوالم» لآلدوس هاكسلي، و«النصّاب الكبير» لهرمان ملفيل، و«المؤامرة ضد أميركا» لفيليب روث –، إنما أتى في الوقت الذي وصل فيه الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب إلى السلطة... فهل ثمة من علاقة بين الأمرين؟

للإجابة عن هذا السؤال الذي لا يخلو من لؤم، قد يحتاج المرء للانتباه إلى أن اليوم الذي بلغت فيه مبيعات «1948» الذروة، ودائما بحسب «النيويورك تايمز»، كان ذاك الذي أُعلن فيه أن واحدة من المستشارات الجديدات للرئيس الأميركي الجديد، كيليان كونواي بدأت في تطبيق السياسة الإعلامية المسمّاة سياسة «الحقائق البديلة».

ونعرف أن جزءاً أساسياً من أجزاء سياسة «الأخ الكبير» (بيغ براذر) في رواية «1948» لأورويل تقوم على تلك «الحقائق البديلة» التي تعتمد مبادئ قلب الحقائق رأساً على عقب والترويج لشعارات مناقضة تماماً لكل ما يمتّ إلى الحقيقة بصلة، وذلك تحت رعاية «وزارة الحقيقة» التي يقوم عملها تحديداً على نشر الأكاذيب، فيصبح اليأس سعادة والكراهية حباً والأمانة سرقة، وما إلى ذلك...

وهنا لا بد من العودة إلى جذور هذا النوع من الأدب الذي أفاق فجأة لمناسبة مجيء الرئيس ترامب إلى السلطة، لنذكر أن قطعه الرئيسة – روايتي أورويل وكتاب هكسلي، على الأقل – إنما كتبت في ذرة العصر الستاليني لتفضح، من داخل الفكر الاشتراكي نفسه، ممارسات «أبي الشعب الصغير» الذي كان قد وصل إلى ذروة تحكّمه، ليس فقط بأعدائه الخارجيين، بل برفاق طريقه ومثقفي بلاده، ضارباً بسيف سلطته كل من تجرأ على انتقاده أو حتى على التلميح بمساءلته حول ما يفعل.

ونعرف أن أورويل وهاكسلي كانا من بين مناصري السوفيات قبل أن تتكشف لهما الحقائق فيجابهها كل واحد منهما، إضافة إلى مئات المثقفين من طينتهما، بسلاح الأدب الذي لا يمتلكون سواه.

وعلى هذا النحو تراكم أواسط القرن العشرين متن أدبي مذهل بقيت هذه الأعمال من أبرزه رموزه... لكنها في الحقيقة بقيت مرتبطة باسم ستالين مشيرة إلى ممارساته – وممارسات حزبه في «مزرعة الحيوانات» -، كما حال كتابات لباناييت إستراتي وأندريه جيد وكازانتزاكيس، وغيرهم من الذين نددوا بالدكتاتورية سواء كانت حزبية أو فردية.

وبعد سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الحزبية الاشتراكية الحاكمة - التي سوف يقال في القرن الجديد أن أول ضحاياها كان على أية حال، ذلك المفكر والاقتصادي الذي قامت باسمه، كارل ماركس، لكن هذه حكاية أخرى -، بدا وكأن ذلك الأدب المشاكس قد هدأ بعض الشيء، وعلى الأقل في استخدامه السياسي والأيديولوجي، ليعود مكتفياً بمكانته الأدبية، المميزة أحياناً والمتوسطة الجودة في أحيان أخرى.

ومن هنا إذا كان سيبدو غريباً اليوم للبعض، ليس فقط أن ينبعث هذا الأدب وأمهات نصوصه، ليس فقط على يد وبقلم حفنة من نقاد ومؤرخين أدبيين «اكتشفوا بغتة أهمية العودة إليه في الظروف الراهنة»، بل كذلك وخاصة عن طريق ألوف القراء الذين يكتشفون اليوم أن لا جديد تحت الشمس، فإن هذا سيعني أن في إمكان الكلاسيكيات الأدبية في حالتنا هنا، إذا كانت نبيهة وحاذقة، في إمكانها أن تقول لنا الكثير حول حاضرنا الراهن، في حديثها عن حاضرها هي الغابر.

Email