في الدولة المدنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت السنوات الخمس الماضية حوارات ونقاشات حادة بشأن مفهوم الدولة المدنية، فأصحاب التيار الإسلاموي السياسي يرفضون رفضاً قاطعاً مفهومي الديمقراطية والعلمانية، ويوافقون على استخدام مفهوم الدولة المدنية ظناً منهم بأنها النقيض للدولة العسكرية، وأكثر دولتين شهدتا مثل هذه النقاشات هما مصر وسوريا. ولكن ما هي حقيقة الدولة المدنية؟

يعود تاريخ نشأة الدولة إلى زمن سحيق من نشأة تفاوت القوة المادية - الثروة والعنف. وليس في رغبتي العودة إلى هذا التاريخ، إنما لأشير إلى قدم الدولة وتطور مؤسساتها وصورها وأدوات سيطرتها؛ ففي العصور الوسطى عاشت الدول الأوروبية حالة من التحالف بين السلطة المدنية والسلطة الدينية حتى بدا في الظاهر أن الكنيسة هي الحاكمة. ويظن بعض المؤرخين والعامة بأن السلطة الدينية كانت هي الحاكمة.

وفي كل الأحوال مهما كانت العلاقة بين السلطتين السياسية والدينية، في التاريخ القديم، وطيدة فإن الدولة في ماهيتها لم تكن دينية في أية مرحلة من المراحل. فضلاً عن ذلك بأن هذا صار جزءاً من الماضي البعيد، ولا يمكن أن يُعاد إنتاجه في الزمن المعاصر.

إذاً نحن أمام حقيقتين يجب الانطلاق منهما عند التفكير بالدولة المعاصرة في الوطن العربي في ما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة: حقيقة ماضي الظاهرة، وحقيقة بنية الدولة المعاصرة التي أخذت شكل الدولة المدنية من جميع الوجوه.

وعليه فإن كل تفكير بإنشاء دولة دينية تحت مسمى دولة ولاية الفقيه أو دولة الخلافة أمر متناقض مع التاريخ ومع جوهر الدولة المعاصرة، بل إن حصل وتم بناء دولة دينية بالقوة المسلحة فإن عمرها لن يطول وستزول بعد أن تخلف وراءها كارثة اجتماعية وإنسانية وأخلاقية كبيرة.

أعود للسؤال، ماذا نعني بالدولة المدنية ؟: الدولة المدنية هي تلك الدولة التي تنشأ وفق معايير المواطنة المعاصرة بوصفها ثمرة عقد وطني واجتماعي تم بناؤه بشكل حر. بالإضافة إلى معايير المحافظة على الحق الطبيعي والحق الاجتماعي للأفراد.

الدولة المدنية هنا هي دولة تحافظ على حق الانتماء الديني، فليست متناقضة مع الدين كما يظن البعض، بل متناقضة مع الدولة الدينية بمعناها القديم أو بمعناها في الأيديولوجيات الدينية المعاصرة سواء كانت عنفية أو سياسية.

هبْ أن الدولة المدنية بحكم صراع داخلي على السلطة تحولت إلى دولة استبدادية سالبة للحق الذي أشرت إليه فهل تبقى دولة مدنية؟ الجواب «لا» كبيرة. ولهذا فالدولة المدنية هي نقيض للدولة الاستبدادية، دينية كانت أو كانت علمانية. لأن كلا الدولتين تقعان في تناقض مع الحق المدني المتمثل بحق المواطنة. ولهذا ففي الدولة المدنية ليس التسامح منة من فئة تجاه فئة أخرى، بل هو جزء لا يتجزأ من بنية الدولة التشريعية.

لأن الدولة المدنية هي دولة التسامح بالضرورة. ودولة التسامح هذه تقضي على أي نوع من أنواع التفاوت على أساس الدين، وبالتالي تلغي أي شرط من شروط الصراع على أساس ديني أو مذهبي وبخاصة شرط التعصب الديني الذي ينشأ من خطر التفاوت على أساس الدين والمذهب وتغذيه أيديولوجيا تزيف حقيقة التسامح داخل الدين نفسه.

بهذا المعنى فقط، تكون الدولة المدنية في تلك البلدان التي تشهد الآن صراعات مغلفة بغلاف أيديولوجي زائف، دنيوياً كان أو دينياً، هي الحل الأمثل لاستعادة الحياة الطبيعية في القرن الحادي والعشرين.

 

Email