العائدون من «داعش»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما بين دعوة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب إلى إقامة مناطق آمنة داخل الأراضي السورية لاستيعاب طوفان اللاجئين والنازحين من مناطق القتال للحد من تدفقهم على الأراضي الأميركية والغربية عموماً، ودعوة قادة أوروبيين إلى إرسال الشرق أوسطيين المشتبه بهم إلى بلادهم الأصلية واستخدام المساعدات الإقتصادية والمنح المالية كسلاح مزدوج ضد دول شمال أفريقيا، على وجه الخصوص، ما لم تتعاون في مسألتي الأمن واللاجئين.. يبدو أن المهاجرين والنازحين من مناطق الصراعات بالشرق الأوسط سوف يدفعون ثمناً باهظاً يضيف المزيد إلى مآسيهم هم ودولهم.

ولا شك في أن المطالب الأميركية والأوروبية تنطلق من مصالح ذاتية بحتة بغض النظر عن الأطراف التي يجب أن تتحمل الثمن، وكذلك بغض النظر عن المآسي البشرية التي قد تنجم عنها. وتتزايد وتيرة الخوف والقلق والضغوط من جانب أوروبا جراء المؤشرات المتزايدة على هزيمة «داعش» في بلاد الرافدين واحتمالات عودة جماعية للكوادر «الأوروبية الجنسية» المنخرطة في القتال بصفوف التنظيم الإرهابي, وهي ظاهرة متكررة في كل الحالات المماثلة، وكان أبرز عناوينها «العائدون من أفغانستان والعائدون من الشيشان والعائدون من البلقان».

ونتيجة لذلك إزداد الاهتمام الرئيسي على المستويات السياسية والإعلامية عبر ضفتي البحر المتوسط لمتابعة قضية عودة المتشددين المغاربيين على وجه الخصوص من جبهات القتال في سوريا والعراق, وليس خافياً أن الحديث في وسائل الإعلام التونسية عن قصة أنيس العامري التونسي المتهم بتنفيذ اعتداء برلين، على سبيل المثال، غالباً ما يتم وضعه في سياق المخاوف من عودة هؤلاء الإرهابيين.

وقد أثارت هذه المسألة والمطالب القائمة في ألمانيا على وجه الخصوص بإعادة إرسالهم إلى دولهم الأصلية جدلاً غاضباً متصاعداً في تونس إلى حد إطلاق الإنتقادات الحادة لسياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، انعكست في بعض صورها في رفع متظاهرين في شوارع تونس العاصمة لافتات كتب عليها «تونس ليست مكب قمامة لألمانيا»!

وقد أثارت تلك الصيحات الدهشة والتعجب في صحف ومواقع التواصل الاجتماعي في ألمانيا، وتساءل مغردون «كيف يصف تونسيون مواطنيهم بالقمامة ؟!».

ولا تقف الممارسات الأوروبية عند هذا الحد, بل تدفع الحكومة الألمانية باتجاه مزيد من الضغوط على الحكومات المغاربية لإيجاد حلول عبر ترحيل آلاف المغاربيين الذين ترفض طلبات لجوئهم للدول الأوروبية، وذلك عبر منح الدول المغاربية صفة «دول آمنة» ومنحها المزيد من مساعدات التنمية إن هي تعاونت في ملف الترحيل. لكن المعارضة ومنها حزب الخضر يعترض على تصنيف «دول آمنة»، كما اقترح رئيس الحزب جيم أوزدمير بالمقابل تسهيل حصول المواطنين المغاربيين على تأشيرات السفر وفرص الهجرة الشرعية إلى ألمانيا عبر فرص الدراسة والتجارة، بغرض حض هذه الدول على استعادة مهاجريها غير القانونيين.

والحقيقة أن أطراف الأزمة تجد نفسها في مأزق كبير، ومن المتوقع أن يحتدم الجدل في ألمانيا على وجه الخصوص حول هذه المسألة لعلاقتها بقضايا الأمن واللاجئين، تزامناً مع الانتخابات العامة التي تشهدها البلاد هذا العام، بينما يرى محللون أن الدول المغاربية لا تضع هذا الموضوع ضمن أولوياتها، ويعتقدون أن من أسباب الصمت أو التجاهل إزاء هذا الملف وجود مشاكل عديدة تثقل كاهل الدول المغاربية من ناحية..

ومن ناحية أخرى قد لا ترى حكوماتها مصلحة في فتح ملف الهجرة غير الشرعية، فمسألة ترحيل آلاف المهاجرين من ألمانيا وعلى حد وصف أحد المراقبين تشبه شجرة تخفي غابة كثيفة من المشاكل التي يواجهها الشباب الذي تصل نسبته إلى سبعين في المئة من مجموع سكان البلدان المغاربية الثلاث, المغرب والجزائر وتونس، والمقدر حاليا بأكثر من تسعين مليون نسمة.

ففي الجزائر ومع تراجع عائدات الطاقة يواجه الشباب مزيداً من التحديات وارتفاع معدلات البطالة والفقر. وحسب أحدث تصنيف للبنك الدولي فإن حوالي خمسين في المئة من الشباب الذين تقل أعمارهم عن عشرين سنة ليس لديهم آفاق عمل.

وفي المغرب، البلد الأكثر استقراراً في المنطقة المغاربية، الذي تجاوز احتجاجات الربيع العربي بإصلاحات دستورية واجتماعية، لا تزال ثمار التنمية المدعومة من أوروبا لا تؤتي أكلها لفئات واسعة من الشباب المهمشين، وتصل معدلات بطالة الشباب في المدن، وخصوصا بين خريجي الجامعات إلى حوالي تسعة وثلاثين في المئة.

أما في تونس، فبعد ست سنوات من الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي تبدو الديمقراطية الناشئة تختنق تدريجياً تحت وطأة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، إذ يناهز معدل البطالة 15% ، ويتركز معظم الشباب العاطل والفقير في مناطق مهمشة في غرب البلاد وجنوبها، وهي المناطق التي خرجت منها الانتفاضة ضد الدكتاتورية السياسية. وفي ظل الأوضاع الصعبة أمام الشباب في هذه الدول، فإن الخيارات أمامه محدودة، وغالبا ما تنحصر بين الاحتجاجات في الشوارع أو البحث عن طرق الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا, وهجرة الشبان إلى أوروبا التي كانت بالأمس القريب تشكل ملاذاً لهم من البطالة والتهميش تحولت إلى كابوس بفعل تسلل آلاف ممن كانوا يعيشون على هامش مجتمعاتهم أو في بلدان أوروبية تعيش أزمات اقتصادية مثل إيطاليا أو أسبانيا، وبعضهم كان من ذوي السوابق الخطرة.

وإجمالا فإن هذه المشكلة عميقة الجذور ومتعددة الأوجه مرشحة للتصاعد في المرحلة المقبلة، وباتت بالفعل في حاجة إلى معالجة سياسية على أعلى مستوى من خلال برامج مشتركة بين كل الأطراف المعنية، وقد يكون للبعد الأمني أهميته في تسوية المشاكل الناجمة عن تلك الأزمة، إلا أن الأمر بالفعل يحتاج إلى جهود سياسية وبرامج اقتصادية وتنموية حقيقية، وتقتضي مباحثات واتصالات مشتركة تكفل تنمية الدول المستهدفة ومواجهة مشاكل «العائدين من داعش» وتكفل أيضا للجانب الأوروبي الأمن المنشود.

Email