دروس أميركية في التقشف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يوجد الكثير ما يجمع بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية مصر العربية، اللهم إلا أن كليهما لديه عجز مزمن في الموازنة العامة، أي أن كليهما ينفق أكثر مما يأتي له من موارد.

الرئيس دونالد ترامب عازم على أن يغلق هذا العجز من خلال المعادلة البسيطة التي تقول بتخفيض النفقات، والعمل بكل الطرق من أجل زيادة الموارد؛ باختصار أن يخضع الحكومة الفيدرالية لعملية تقشف كبيرة تضعها تحت وطأة «ريجيم» قاس، ولكنها أكثر كفاءة، وقدرة على العمل والحركة.

واحد من أول القرارات التي اتخذها الرجل حال جلوسه في في البيت الأبيض، كان التجميد الفوري لكل أشكال التعيين في الحكومة والمؤسسات الفيدرالية، «ماعدا تلك المتعلقة بالقوات المسلحة الأميركية، والتي لها علاقة بالأمن والشؤون الصحية».

وإذا كان التجميد هو الدرس الأول في التجربة الأميركية التي عمرها في عهد ترامب بضعة أيام، فإن الدرس الثاني هو أن المسألة في جوهرها ليس إبقاء الحكومة الفيدرالية على حالها، وإنما تخفيضها من خلال عمليات جراحية لمؤسسات إما أنها لا فائدة منها، أو أنها لا تقتضي التواجد على المستوى الفيدرالي. قائمة البتر حتى الآن يقع فيها شركة الخدمات القانونية التي تقدم مساعدة قانونية لأصحاب الدخل المنخفض، والتي عند التخلص منها سوف توفر على الحكومة الفيدرالية 400 مليون دولار.

مؤسسة أخرى موضوعة على المقصلة هي برنامج الخدمات الجوهرية الذي يقدم الدعم للمطارات الريفية. المؤسسة الثالثة هي الوقفية القومية للفنون، والقومية الوطنية للإنسانيات، مع خصخصة شركة الإذاعة العامة التي تحتوي على محطات للراديو والتلفزيون العام في الدولة. وبالإضافة إلى المؤسسات، فإن إنهاء عمل إدارات «التجارة الدولية» و«التنمية الاقتصادية» و«تنمية الأعمال للأقليات»، و«شراكة التوسع الصناعي» وبرنامج الزراعة لحماية «الكاتفيش» وهو نوع من السمك لم يعد له ضرورة.


ترامب هنا حصل على المساندة الكاملة من الدراسات التي قامت بها مؤسسة «هيرتيج» الأميركية المعروفة، والتي تتبنى الموقف أن الحكومة الفيدرالية الأصغر هي بطبيعتها أكثر كفاءة.

وللأسف فإنه لا يوجد لدينا مثل هذه المؤسسات في مصر، كما أنه على الأرجح لا يوجد لدينا الكثير من المؤسسات التي سوف يسعى الرئيس الأميركي إلى التخلص منها لإنقاذ الموازنة العامة من عجز مزمن.

ولكن المؤكد أن لدينا ثلاثة أمور تحتاج النظرة الفاحصة: أولها حجم الحكومة الهائل الذي لا يوجد مثيل له في أي من بلدان العالم المماثلة لنا في عدد السكان أو المساحة أو الثروة القومية بشكل عام. وثانيها أن هناك عدداً كبيراً من الهيئات والمؤسسات العامة، الإنتاجية والخدمية التي أدمنت الخسارة، ولا تعوضها الحكومة المصرية عن خسائرها فقط، بل إنها تقوم أيضاً بمدها بالأرباح التي كان منتظراً منها تحقيقها لصالح الموازنة العامة.

وثالثها أنه لا يوجد ما يدل على أن التمدد في الحكومة والقطاع العام آخذ في الانخفاض، بل إن المرجح وفقاً للملاحظة المباشرة أنها آخذة في التوسع. فالحقيقة أننا لا نحتاج لاتباع طريق ترامب لأن لديه مؤسساته وإداراته وبرامجه، ولكننا نحتاج لاتخاذ القرارات الخاصة بنا؛ ولكن الهدف واحد لدينا ولدى ترامب وهو تخفيض عجز الموازنة عن طريق التخفيض الجراحي للإنفاق العام في مصر.


ولكن علينا أن نتذكر دوماً أن ترامب لن يسعى فقط إلى تخفيض حجم الحكومة الفيدرالية، وإنما أيضا سوف يسعى لزيادة مواردها من خلال برنامج هائل لتطوير البنية الأساسية الفيدرالية في الولايات المتحدة كلها، وفتح المجال لاستغلال الثروات الطبيعية برفع كافة العقبات البيئية أمام هذا الاستغلال، خاصة ما يتعلق منها بالبترول والطاقة، وفتح الباب على مصراعيه للاستثمار الخاص من خلال تخفيض الضرائب على الشركات والأغنياء. القضية لدى ترامب ليست «عدالة» الضرائب التصاعدية.

هو يعرف أن البنية الأساسية الجيدة تحتاج معها إلى سياسة ضريبية مختلفة تكون أقل قيمة، وأكثر مرونة، ولكنها أكثر إيراداً نتيجة الارتفاع في معدلات النمو، مما هو متاح في دول أخرى.

في مصر فإن قفزة كبيرة بدأت بالفعل في تحديث البنية الأساسية في مصر. ولكن البنية الأساسية، مثل حالها في أميركا، لا تكفي للتشغيل وتخفيض التضخم، وتقليل العجز في الموازنة العامة. هناك في الولايات المتحدة الأميركية حيث حجم الاقتصاد هائل، يوجد رئيس جديد يريد مزيداً من توفير الفرص والمناخ للاستثمار. في مصر فإن الوضع يختلف لأن الاهتمام بالبنية الأساسية لم يواكبه نفس الاهتمام والتركيز والجهد بالنسبة لمناخ وبيئة الاستثمار.

فهل نفعل ونتعلم من تجربة ترامب التي لا تزيد عن أيام قليلة؟

Email