أميركا أولاً ..وأخيراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تلك الليلة كانت أنظار العالم في اتجاه واحد هو واشنطن. إنها ليلة تنصيب دونالد ترامب رئيساً هو الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية. الدولة الأقوى، التي يؤثر فيها هزة اقتصادية تحدث في اليونان أو قطار يخرج عن سكته في الصين، ويزعجها صوت نورس يغني خارج السرب على شواطئ بحيرة جنيف.

أميركا هي الدولة الأكثر انتشاراً، الأسرع تحركاً، الأكثر إنفاقاً على التسليح العسكري، ما كلفها مبالغ طائلة من دون طائل سوى الدور الذي اتخذته كشرطي وحيد ينظم السير في العالم، وفق الرؤية الأميركية الأحادية، الدولة الأكثر غروراً وبالتالي، انهياراً.

الدول كالبشر؛ لها شبابها وقوتها، ولها تعبها. أميركا تعبت، وقبل أن تهرم التقط من يحكمونها الإشارات وقرروا تغيير الاتجاه. «أميركا أولاً» هو الشعار الأول لرجل الأعمال الذي نصبوه رئيساً، وربما أرادوا أن يكملوا: «وليذهب الباقون إلى الجحيم» من يدفع أكثر هو الأقرب!

من هم هؤلاء الذين يحكمون أميركا؟

في مكان منعزل بعيد عن الأضواء والصحافيين الفضوليين، وفيما تجري الاحتفالات التقليدية بتنصيب الرئيس الأميركي الجديد، يجري اجتماع آخر سري، لا يسمح خلاله بحمل الهواتف أو أي من أجهزة الاتصال والألواح الذكية وأجهزة الحاسوب، وأثناء الاجتماع تفعَّل أجهزة تشويش الاتصالات، وتترك جميع الأوراق على الطاولات لإتلافها لاحقاً.

يجري هذا الاجتماع منذ الحرب العالمية الثانية، ويحضره صفوة الأغنياء خاصة السلالات المالية الذين يسمون بالمستثمرين، وأباطرة الإعلام وكتاب وسياسيون ممن ساهموا بإيصال الرئيس الجديد للكرسي، وباحثون وخبراء في الشؤون العامة ومراكز الدراسات والأبحاث والشركات الاستشارية. ويقال إن عائلة كوش هي المسؤولة عن تنظيم هذا الاجتماع، فهي تملك ثاني أكبر شركة خاصة في الولايات المتحدة وتتشعب أعمالها من صناعات كيميائية وورقية وشركات نفطية.

من أهم شخصيات هذا النادي الملياردير اليهودي الأميركي هنغاري الأصل جورج سوروس الذي يسمى بعراب الثورات العربية، وهو مدير محمد البرادعي في مجموعة الأزمات الدولية!

يوصفون بأنهم يمينيون متطرفون، غالبيتهم العظمى من الرجال البيض، ولكثرة تشددهم كانوا يرون أن بوش الابن لم يكن محافظاً بالدرجة الكافية، أما فترة حكم أوباما فاعتبروها نهاية النظام العالمي الجديد أحادي القطبية.

في هذا الاجتماع يتم تقييم الرئيس الجديد، والاتفاق على استراتيجيتين: الأولى إحباط أي وعود انتخابية قطعها الرئيس بما يشكل خطراً على مصالح المستثمرين، والثانية الاتفاق على ما هو مطلوب من الرئيس الجديد تحقيقاً لمصالحهم، فيتم بناء آلة سياسية لتحقيق ذلك بعد جمع المال من المستثمرين.

وتمويل مراكز الأبحاث والدراسات والشركات الاستشارية والجامعات لتسويق آرائهم وإثارة الجدل العام، وتوظف جماعات الضغط للعمل مع رجال الكونغرس، وتدفع الأموال للقضاة ومراكز القانون لسن القوانين أو الدفاع عن القوانين التي تحقق مصالحهم، وتبدأ الماكينة الإعلامية بالعمل.

ويكتب الكتّاب ليشكلوا الرأي العام الذي يريدونه. ومن هذا الاجتماع تنبثق عشرات المناسبات تحت غطاء خيري يدفع خلاله المستثمرون الذين سيُعرفون بالمتبرعين الملايين لدعم قضايا عديدة تصب في مصالحهم ومنها الصهيونية إحدى أدواتهم.

يقال أن ثمانية عشر شخصاً فقط حضروا الاجتماع المتزامن مع تنصيب أوباما الأول، وأنهم استثمروا 889 مليون دولار في الانتخابات الأخيرة. ويقال أيضاً أن هدفهم الأساسي في تنصيب أوباما الأول كان تدمير النموذج السائد للدول بشكلها التقليدي وإشاعة الفوضى في العالم.

وهذا ما نشهده في منطقتنا العربية، ولا تزال قراراتهم تتمحور حول فتن وحروب، فوضى، ضرائب قليلة، الحد الأدنى من التدخل الحكومي في الاقتصاد، محاربة أي قوانين تحمي البيئة أو تحقق الخدمات الاجتماعية. وربما في هذا السياق كان أول قانون وقعه ترامب إلغاء ما يعرف بـ«اوباما كير» وهو أول قرار كان قد اتخذه أوباما عند توليه السلطة.

جاء في أسباب إقراره أنه نظراً للرأسمالية التي يعيشها المجتمع الأميركي، وما لها من سلبيات تجعل من الإنسان آلة تعمل لتوفير لقمة عيش، وكل مواطن أميركي يعمل على حدة في مجتمع تسوده الرأسمالية البحتة، جاء قرار أوباما كير صادماً بعض الشيء خصوصاً للجمهوريين إزاء الديمقراطيين وهدفه إصلاح نظام الرعاية الصحية، وأن يتم توفير تأمين صحي شامل لكل مواطن أميركي بتكاليف منخفضة، وقد تم إطلاق هذه الآلية في عام 2010، وتم الموافقة عليه من الحكومة العليا في الولايات المتحدة في 2012.

أميركا القطب الواحد لم تعد القطب الأوحد. لقد دخلت روسيا بوتين على خط القيادة بمهارة. لا أحد يدري كيف سيكون شكل العالم، لكن من المؤكد أن السفن العملاقة لا تسير في المياه الضحلة. لنتوقع ما هو غير متوقع!

 

Email