أخطأت واشنطن في كل المواقف

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب نجح بالفعل في إلقاء أكثر من حجر في بحيرات السياسة الأميركية النمطية، برغم أنه لم يتسلم بعد رسمياً مقاليد السلطة داخل البيت الأبيض، والدليل الأكبر على ذلك انتقاداته الحادة لأجهزة المخابرات الأميركية، بسبب ما وصفه بأدائها السيئ في أكثر من ملف خاصة ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأخيرة وكذلك بممارساته الشخصية.

لم تكن مثل هذه الانتقادات أمراً مألوفاً خاصة من داخل «المؤسسة» الأميركية لعدم هز هيبة الدولة ومكانة أجهزتها، إلا أن الرئيس «الشعبوي» عازم على تغيير كثير من قواعد اللعبة وهو ما اتضح في مؤتمره الصحفي العالمي الذي عقده الأسبوع الماضي وأسقط خلاله بعض «التابوهات» المألوفة في السياسة الأميركية.

ولا ندري ما إذا كان تركيز ترامب على أجهزة المخابرات أمراً مقصوداً أم أنها مصادفة لحظية مرتبطة بأحداث ووقائع محددة؟.

إلا أن المثير في الأمر تزامن تلك الانتقادات مع اعترافات مهمة من داخل المؤسسة الرسمية تؤكد ارتكاب أخطاء جسيمة في التعامل الأميركي الاستخباراتي مع عديد من القضايا الدولية، وفي المقدمة منها قضايا الشرق الأوسط، وهي اعترافات لها أهميتها إذا ما أضيفت إلى ما سبقها من اعترافات وتقارير بشأن تلك الأخطاء وتداعياتها الكارثية.

لعل على رأس تلك الاعترافات ما صرح به مدير المخابرات المركزية الأميركية جون برينان بشأن ظاهرة «الربيع العربي» حيث أشار إلى أن إدارة الرئيس باراك أوباما أخطأت في تقييم انعكاسات أحداث «الربيع العربي»، مشيراً إلى أن واشنطن كانت تأمل، بشكل غير واقعي، في أن تؤدي تلك الأحداث إلى ازدهار الديمقراطية، مؤكداً أيضاً أن سحب القوات الأميركية من العراق عام 2011 ساعد على تعزيز مواقف تنظيم «داعش» الإرهابي!.

هذه الاعترافات هي أحدث حلقة في سلسلة اعترافات المسؤولين الأميركيين على مستويات متعددة بشأن الأخطاء في التعامل مع قضايا المنطقة منذ بداية الألفية الثالثة على أقل تقدير، فقد سبقتها اعترافات عديدة داخل الولايات المتحدة وفي عواصم الحلفاء بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها واشنطن في العراق وليبيا وسوريا والتعامل مع القاعدة وداعش والربيع العربي.

والمؤسف أنه تم التعامل معها باعتبارها أخطاء تتحمل نتائجها اجهزة استخباراتية أساءت التقدير، ولكنها في حقيقة الأمر خطايا سياسية كبرى للنظم السياسية الحاكمة في تلك العواصم والتي كانت تبحث عن مبرر لتمرير جرائمها أو خطاياها.

نعم، بالتأكيد هي خطايا جسيمة وليست مجرد أخطاء، تلك التي تحدث من جانب القوى الكبرى خاصة في الحروب والأزمات الحادة والمعقدة، وعلى رأس العوامل التي تجعلها تنتقل من وصف الخطأ إلى خانة الخطايا تلك النتائج والتداعيات الكارثية التي تنجم عنها وقد تتضح آثارها بشكل فوري وقد تظهر مع مرور الأيام والأشهر والسنين.

تكاد منطقة الشرق الأوسط أن تكون هي المنطقة الوحيدة في العالم التي تمارس بها دوما وبشكل فاضح سلسلة «الأخطاء المتعمدة» من جانب القوى العظمى والكبرى- الغربية منها على وجه الخصوص – والتي تحولت على ما يبدو إلى ميدان رماية ضخم لتلك القوى، لتمر جرائمهم بدون أي عقاب أو حتى أي محاولة لتعويض أصحاب الشأن عما حدث.

ولكن الممارسات نفسها تستمر وتكثر وتأخذ صورا متعددة دون حتى أي محاولة من أصحاب الشأن برفع صوتهم بالشكوى أو المطالبة بحقوقهم ولو انطلاقاً من القيم والمثل العليا التي يتشدق بها قادة وزعماء القوى المهيمنة الذين يبدو أنهم المقصودون بوصف «الرعاة العتاة» الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في حديثه عن حروب المنطقة.

كم كان غريباً مثلاً أن يتحدث الرئيس الأميركي باراك اوباما من فوق منبر الأمم المتحدة عن أهمية توجيه الأموال التي تنفق على الأعمال الحربية في العراق إلى جهود وبرامج التنمية، بدون أي إشارة من قريب أو بعيد إلى المسؤولية التاريخية لبلاده عن الدمار الذي لحق ولا يزال جراء الغزو الأميركي الغاشم لهذا البلد العربي عام 2003 بدون أي مبرر أو سبب وبدون أي تفويض دولي.

وكذلك برغم الأصوات التي تعالت آنذاك محذرة من خطورة الحرب وعدم جدواها ونتائجها وتداعياتها المدمرة، ومن بين تلك الأصوات ما قاله أحد العلماء بأن الولايات المتحدة لو قصفت المدن العراقية بملايين الكتب بدلاً من أطنان القنابل والقذائف والصواريخ لربما كان من الممكن إعادة بناء هذه الدولة بشكل سلمي بعيدا عن الحروب.

ليس خافياً اعتراف العديد من المسؤولين الأميركيين والبريطانيين والغربيين عموما بأن الحرب على العراق كانت خطأ من أساسها وأنها تمت بناء على معلومات وتقارير استخباراتية غربية مغلوطة.

ويعد تقرير تشيلكوت البريطاني الذي صدر قبل أشهر قليلة بعد أعوام من التحقيق في ظروف وملابسات وأسباب الحرب على العراق، أنه لم يكن هناك ما يبرر هذه الحرب وأن الحكومة البريطانية تتحمل مسؤولية هذا الخطأ وما نجم عنه من تداعيات سلبية وآثار خطيرة، وسرعان ما صدر بعده تقرير آخر يؤكد خطأ التدخل في ليبيا ليضاف إلى سلسلة الاعترافات الغربية بالخطايا السياسة تجاه المنطقة وقضاياها.

 

Email