جاء متأخراً أكثر من اللازم

ت + ت - الحجم الطبيعي

المثل الغربي الشهير بلغات متعددة يقول «أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً»، وفي لغتنا العربية أمثال كثيرة مشابهة على غرار«شيء أفضل من لا شيء» و«عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة».

فإذا ما أردنا تطبيق هذه الأمثال مجتمعة على التحول الأميركي «الرهيب» تجاه القضية الفلسطينية في الأيام الماضية، فأغلب الظن أننا سنصطدم بفجوة ضخمة أو هوة عميقة ما بين النظرية والتطبيق لتلك الأمثال.

لقد جاءت المواقف الأميركية الجديدة متأخرة جدا، وفي الوقت الضائع غالبا إلى الحد الذي يجردها كثيراً من قيمتها السياسية إن لم يكن جميعها، كذلك الشيء الذي قدمته إدارة اوباما وهي في النزع الأخير من حياتها السياسية، لا يمكن الاعتداد به أو التعويل عليه كثيرا لغموضه الشديد وميلاده وسط ظروف سياسية غير طبيعية.

الواقع أن التصريحات والمواقف الأميركية، التي جاءت على لسان المندوبة الأميركية في مجلس الأمن سامنتا باور ووزير خارجيتها جون كيري بشأن الاستيطان الإسرائيلي وحل الدولتين حملت تحولات حادة غير معهودة من جانب واشنطن مثلما تابع العالم دون أي مواربة أو مراوغات، فقد كانت الإدانة شديدة لإسرائيل وحكومة نتانياهو على وجه الخصوص، بينما الانتصار للحق الفلسطيني في تجريم وإدانة الاستيطان والمستوطنات جاء واضحا وضوح الشمس.

هذه المواقف في حد ذاتها تستحق كل تقدير وتحية لو تم تقييمها بشكل مجرد بعيدا عن أي ظروف محيطة أو مناورات سياسية لا تخطئها عين، هذه المواقف هي دفعة معنوية وأدبية هائلة للشعب الفلسطيني ولكنها للأسف الشديد لن تسمن ولن تغني عن جوع.

فقد جاءت في اللحظات الضبابية لأي إدارة أميركية توشك على مغادرة البيت الأبيض، ومع احترامنا الشديد لما يسمى«الطابع المؤسسي» للولايات المتحدة التي لا تتغير فيها الإستراتيجيات ولا تتبدل فيها السياسات بشكل محوري، إلا أن هذا المبدأ لا يسري في هذه الحالة.

وعلينا أن نتذكر قبل الخوض في عرض الموقف بكل أبعاده أن هذه المواقف الأميركية تجيء في نهاية ثماني سنوات عجاف من حكم إدارة ديمقراطية برئاسة باراك أوباما، وبرغم أنه تولى السلطة وبين يديه خريطة طريق واضحة ورثها من سلفه جورج بوش الابن تقوم على تسوية الصراع بتطبيق تصور الدولتين.

إلا أن كل الشواهد تؤكد أن القضية الفلسطينية تعرضت لتدهور حاد في عهد اوباما ولم تتحرك خطوة واحدة للأمام، بل إن الجانب الأكبر من تدمير قطاع غزة في اعتداءات إسرائيلية متواصلة تم خلال إدارة أوباما التي لم تحرك ساكنا.

وغني عن البيان في ضوء ذلك وحقائق أخرى أن ما عجزت عن تحقيقه طوال ثماني سنوات من المستحيل تحقيقه في ثلاثة أسابيع من عمر الزمان، وكذلك لا نستطيع الجزم بأن «قلوب إدارة اوباما الرقيقة» قد حنت فجأة على الفلسطينيين وتذكرت حقوقهم المشروعة المهدرة.

إلا أنها ناورت بهذه المسألة وتلاعبت بأطراف عديدة، وصحيحة تلك التحليلات التي ذهبت إلى أن تصويت واشنطن في مجلس الأمن على إدانة الاستيطان ليس حباً في الفلسطينيين ولكنه نكاية في الرئيس المنتخب دونالد ترامب وإدارته المقبلة.

بل نستطيع أيضاً أن نذهب إلى أبعد من ذلك بالتأكيد على أن إدارة اوباما اتبعت في أواخر أيامها ـ وعلى غير المألوف ــ سياسة «الأرض المحروقة» أو هدم المعبد على رؤوس أطراف عديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وربما إرباك المشهد برمته، بما يؤدي إلى نتائج مزعجة للجميع حتى للفلسطينيين أنفسهم، فهي بموقفها هذا ألقت بكرات من اللهب في أيدي ترامب والحكومة الإسرائيلية.

ويصبح التساؤل مشروعا بالفعل هل كان من الأفضل للفلسطينيين التمهل حتى مجيء الإدارة الجديدة وسبر أغوارها الحقيقية وكشف أوراقها في موقع السلطة والتضحية بالقرار إلى حين، أم تعجل التصويت وصدور القرار مع كل ردود الفعل الجنونية التي صدرت من المسؤولين الإسرائيليين وأركان إدارة ترامب القادمة، والتي غلب عليها موجات من الغضب العارم المصحوب بالتهديد والوعيد، في حق الفلسطينيين وليس الإسرائيليين؟!.

لا ينطوي هذا التساؤل على إدانة أو انتقاد لأصحاب القضية، فهم الطرف المضطهد على مدار العقود الماضية، ولكن المؤسف أن يدفعوا هم أنفسهم ثمنا باهظا للمناورات السياسية والألاعيب الحزبية لأطراف أخرى تمسك بأيديها خيوط التحكم في مقدرات غيرها من الدول والشعوب المستضعفة على وجه الخصوص.

ولو أن القضايا الدولية الشائكة تحل فقط من خلال القرارات الأممية التي تصدر عن مجلس الأمن أو غيره من الهيئات الدولية لأمكن تسوية كثير من الصراعات في مراحل مبكرة، ولخرجنا جميعاً إلى الشوارع نبتهج ونرحب ونهلل لقرار إدانة الاستيطان، الذي سيظل كغيره «حبراً على ورق» ما لم تسانده إرادة جماعية دولية لتنفيذه على أرض الواقع.

وليس من المنتظر أن يتحقق ذلك في الأمد المنظور بعدما حوّلت إدارة أوباما الرئيس المقبل إلى نمر جريح بهذا القرار وغيره من القرارات المفاجئة بهدف إغراقه في مشاكل دولية كبرى مع توليه الرئاسة.

Email