اغتيال العقول ثقافة إسرائيلية بامتياز

ت + ت - الحجم الطبيعي

«تصفية العقول العربية» هي الظاهرة التي ولدت مع ظهور الصراع العربي – الإسرائيلي وزرع الكيان الغاصب في قلب الأمة العربية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ومن يومها لم تحصر دولة الاحتلال صراعها مع الدول العربية في الوسائل العسكرية وآلة الحرب فقط، ولكنها وسعت من دائرة الصراع ليشمل كل الأدوات الاقتصادية والتنموية وكذلك العلمية، لتحول بين الدول العربية وكل وسائل الحداثة والتطور التي قد تهدد وجودها يوماً ما.

وفي هذا السياق ابتكرت حربها الخاصة القائمة على الاغتيالات الداخلية والخارجية لكل من ترى في وجوده على سطح الكرة الأرضية تهديداً لمصالحها الخاصة بداية من الكونت برنادوت أول مبعوث دولي للأمم المتحدة إلى الأراضي المحتلة في أعقاب تقسيم فلسطين عام 1947 وصولاً إلى المهندس التونسي محمد الزواري رائد تكنولوجيا «الدرونز» أو الطائرات بدون طيار.

وعلى الرغم من أن تونس ليست من دول الطوق ولا هي من دول المواجهة المباشرة مع الكيان الصهيوني، إلا أن ثقافة الاغتيالات المتغلغلة في ذهنية وسياسات الجانب الإسرائيلي لا تستثني أي مظاهر تميز أوتفوق في محيطها العربي والشرق أوسطي.

وتونس على سبيل المثال كانت في أكثر من مناسبة موضعاً لمواجهات مفاجئة مع الكيان الصهيوني اكتوت خلالها بعدوانية غاشمة بلا مقدمات أو أسباب طارئة، وكان أبرز تلك المواجهات في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي عندما ارتكبت طائرات أف – 16 الإسرائيلية جريمتها النكراء بتدمير مقار منظمة التحرير الفلسطينية في حمامات الشط قرب تونس العاصمة، وكذلك عملية اغتيال خليل الوزير «أبو جهاد» عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة بواسطة وحدة خاصة تسللت إلى منزله في تونس عبر مياه المتوسط واغتالته ليلاً.

وليس خافياً أن آلة الاغتيالات الإسرائيلية طالت أسماء وشخصيات كبيرة من قيادات ورموز المقاومة الفلسطينية والعربية في الداخل والخارج، والقائمة طويلة في هذا الشأن، وربما يمكن تفهم ذلك في سياق صراع عسكري متبادل يوظف خلاله العدو كل أدواته الحربية حتى ولو كانت من خلال عمليات قذرة تعتمد كذلك على النشاط المخابراتي للخلاص من رموز المقاومة والصمود والنضال العسكري.

عملية اغتيال المهندس التونسي محمد الزواري بالتأكيد ليست الأولى من نوعها في الحرب الإسرائيلية على العقول العربية، وأغلب الظن أنها لن تكون الأخيرة؛ فمنذ بدايات الاعتراف بالكيان الصهيوني وتلك العمليات المخابراتية القذرة ترافق سياساته.

ولعل البداية الموثقة في هذا الشأن كانت في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي مع عالمة الذرة المصرية «سميرة موسى» التي قتلت في حادث غامض بمدينة لوس أنجليس الأميركية عندما كانت تدرس الفيزياء النووية، وتكشفت فيما بعد حقائق عديدة عن تصفيتها بمعرفة «الموساد» وبمساعدة «راشيل ابراهام» عضو الوفد الإسرائيلي في الأمم المتحدة.

وهي نفسها الممثلة المصرية الشهيرة في أربعينيات القرن الماضي «راقية إبراهيم» وقد ربطتها علاقة صداقة بالعالمة المصرية في الولايات المتحدة لم تحل دون قيامها بدورها في خدمة الموساد وضد كل قيم ومعاني الصداقة بل والإنسانية.

تجدر الإشارة هنا إلى العالم المصري الراحل الدكتور يحيى المشد الذي اغتالته عناصر الموساد داخل أحد فنادق العاصمة الفرنسية باريس عام 1980 بتهمة الإشراف على/‏ وتنفيذ البرنامج النووي العراقي آنذاك، وسرعان ما تخلصت من البرنامج ذاته بتدمير المفاعل النووي العراقي قيد الإنشاء أو الذي كان قد أوشك على الاكتمال في أوزيراك عام 1981.

وبعد عدة سنوات عثر على مهندس محركات الصواريخ المصري السيد بدير – الذي اعتبر عبقرياً في مجال تخصصه – قتيلاً في الإسكندرية، وأشارت أصابع الاتهام إلى عناصر الموساد التي اغتالته بإلقائه من شرفة منزله.

ثم كان الرحيل المفاجئ والمثير للمفكر والباحث المصري الدكتور جمال حمدان الذي تردد في أكثر من مناسبة أنه كان يعتزم تقديم أبحاث علمية جديدة تكشف زيف الأسطورة الصهيونية برمتها، فلقي حتفه كذلك في واقعة غريبة ومحيرة.

ومن ثم فإن اغتيال المهندس التونسي محمد الزواري برصاصات الموساد ليست إلا حلقة من حلقات مسلسل تصفية العقول العربية، وهو شيء تتباهى به إسرائيل وتعتبره جزءاً من حماية «أمنها القومي»؛ فبينما ساد الصمت على المستوى الرسمي الإسرائيلي.

فقد تركت الأمور للصحافة العبرية وللإعلام عموماً لعرض تفاصيل الحادث أو الجريمة: القناة العاشرة الإسرائيلية مثلاً أكدت في تقرير لها أن السبب الحقيقي لاغتيال الزواري هو ما سمته «الخطر القادم مما كان ينوي فعله بالمستقبل»، ليس فقط لريادته في صناعة وتطوير ما عرف بـ«طائرات الأبابيل»، بل لأن مشروع شهادة الدكتوراه الخاصة به يناقش كيفية صناعة الغواصات والتحكم بها عن بعد.

من دون أدنى شك فإن الكيان الصهيوني لا يحاول على الإطلاق التنصل من تلك الاغتيالات بل يتباهى بالكشف عنها وتحمل مسؤوليتها سواء بشكل رسمي أو من خلال الحلقات الوسيطة، كالإعلام مثلا، لتوجيه رسالة صريحة بأن سياسة تصفية العقول العربية هي أولوية لن يتراجع عنها.

Email