لو كان التضخم رجلاً لقتلته أيضاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينسب إلى الإمام علي، رضي الله عنه، ذلك القول الحكيم «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، ولكن يخطر لي أحياناً أن الشيء الذي لا يقل خطراً عن الفقر، هو التضخم، أي الارتفاع الكبير في الأسعار، خاصة إذا بدأ مفاجئاً وظل مستمراً.

كثيراً ما نعتبر أن الضرر الأساسي للتضخم هو ما يجلبه من شعور بالفقر، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن الصحيح أيضا أن للارتفاع الكبير والمستمر في الأسعار مساوئ أخرى شديدة تضاف إلى اشتداد الشعور بالفقر نعم، التضخم يفاجئ أصحاب الدخول الثابتة، أو الدخول التي لا تزيد بسرعة الأسعار بهبوط مفاجئ في مستوى المعيشة، ولكن هناك آثار أخرى كثيرة تصيب الفقراء والأقل فقراً على السواء.

هناك طبعاً ذلك الشعور المضني بعدم الاطمئنان للمستقبل، والاطمئنان للمستقبل يحتاجه الجميع، وليس الفقير فقط، وليس فقط فيما يتعلق بالدخل، الخوف مما يمكن أن يأتي به المستقبل يضني الجميع: هل سيستطيع ابني إكمال تعليمه في مدرسة عالية التكاليف؟ هل سأتمكن من الإنفاق اللازم لتزويج ابنتي؟.. إلخ والناس لا تتوقف عن الكلام عما يمكن أن يأتي به المستقبل مما هو أسوأ من الحال الآن.

ركاب الميكروباص لا يكفون عن الكلام عن فلان الذي لم يستطع كذا وكذا بسبب التضخم، وقد كان قادراً على ذلك قبله. والجرائد لا تكف عن تكرار الكلام عن نية الحكومة في ضرب التجار الجشعين، ولكنها لا تبدو قادرة على ذلك، والمسألة لا تبدو على أي حال نتيجة لعمل التجار الجشعين.

ولكن الخوف في ظل التضخم يشمل أكثر من ذلك يشمل أفراد أسرتي إلي، بل ونظرتي إلى نفسي هل العيب في أنا الذي عجزت عن الاحتياط الواجب؟ أو لم أقتنص الفرص التي كانت متاحة؟ هذه الأسئلة واردة وموجعة ولا مهرب منها.

ولكن الخوف من المستقبل والقلق على الحاضر يطغيان بالضرورة على اهتمامات بأشياء كانت جديرة بالاهتمام، ما أهمية السياسة إذا كانت الأحوال بهذا الشكل، ويمكن أن تستمر، على ذلك؟.

هناك طبعاً الجشعون الذين لا يشبعون، وينتهزون الفرصة لزيادة أرباحهم، ولو بالادعاء والكذب، فادعوا مثلاً إذا كانوا كتاباً أن التضخم ليس مضراً لهذه الدرجة، أو أنه لم تكن هناك وسيلة لتجنبه.. الخ، ولكن هناك أيضا الأبرياء الذين لا يطلبون إلا ما يعوضهم عن أثر التضخم عليهم وعلى أسرهم.

عندما يكون التضخم بسبب تغير سعر العملة يوجد سبب آخر للقلق. ما الذي سيرتفع سعره، وما الذي سيظل سعره كما هو؟ بل وما الذي يمكن أن يختفي من الأسواق لتعذر استيراده؟ لا يعرف أحد بالضبط النسب المستوردة من كل سلعة، وهل حل محلها إنتاج محلي أم لم يحل؟ ومن ثم ما مصيرها حتى إذا كانت بأهمية أشياء كالأدوية أو ألبان الأطفال.... الخ؟

لم يكن التضخم في جيل أبي وأمي كل هذا من مسببات القلق. أولاً كان التضخم نادرا في أيامهما خاصة بهذه المعدلات ولكن هناك سبب آخر. وهو أنه كلما مر الزمن زادت نسبة السلع والخدمات التي تتداول بالنقود تباع وتشترى، ولم تكن تباع وتشترى من قبل، وأشياء كالتعليم مثلا كانت شبه مجانية وتقدمها الدولة، فأصبحت تباع للأسف في السوق المسماة بالسوق الحرة، كل هذا يضيف إلى عدد الأشياء التي يجري عليها التضخم، وتصبح مصدراً للقلق ولم تكن من قبل كذلك.

ثم جاءت العولمة، فأضافت أسباباً جديدة للتضخم ليس فقط التقلب في أسعار العملات التي لم تكن تؤثر في الاقتصاد المحلي فأصبحت تؤثر فيه، ولكن أيضا لانضمام قوى شرائية جديدة من كل أطراف الأرض، وكذلك لأن العولمة زادت من نسب الأشياء التي تباع وتشترى، ولم تكن كذلك من قبل.

كان الاقتصادي الانجليزي الشهير جون مينارد كينز يكتب في ثلاثينيات القرن الماضي، في ظل الدولة «القومية»، قبل عهد العولمة الجديد، وكانت لديه شكوك قوية في منافع العولمة، وعبر عن بعضها. ولكنه على أي حال لم يشهد العولمة بصورتها المتوحشة الحالية، إذ مات في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وها نحن قد رأينا ما لم يره.

وقد ظلت السياسات الاقتصادية المتبعة تسير وفق النصائح الكينزية حتى حل محله في النفوذ والشهرة اقتصادي آخر هو ميلتون فريدمان، الذي احتل مكان الصدارة ابتداء من أوائل السبعينيات. ولكن هذا الوقت كان أيضا بداية عصر العولمة الجديد وعصر التضخم الجامح.

إن التضخم ليس بالطبع السبب الوحيد أو الأكبر للقلق أو التوتر الاجتماعي، ولكنه يبدو من أسوأ وأسخف أسباب هذا التوتر ذلك أنه من عمل الإنسان، فما كان أغنانا عنه.

Email