التعليم ومستقبل المنطقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما قدم عدد من المثقفين العرب السلسلة الأولى من تقارير التنمية البشرية حول المنطقة عبر برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في عام 2002، كانت النتائج صادمة.

فقد كانت لحظة فاصلة ألقت بظلالها على أوجه القصور الحاصل في المنطقة والتحديات الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة في المستقبل كنتيجة حتمية لها.

وشملت التحدّيات أموراً عدةً منها الحاجة للحد من ارتفاع معدّلات البطالة عن طريق خلق فرص عمل جديدة، وضرورة جسر الفجوة لتحقيق المساواة بين الجنسين، والحاجة الملحّة لمعالجة الاختلال المعرفي وتدنّي جودة التعليم، وجاءت جميع هذه التحديات نتيجة لافتقار المنطقة لأنظمة تنمي المعرفة والابتكار التي تعمل على غرس القيم الأساسيّة وتضع الأطر المؤسسيّة لدعم مجتمع المعرفة الذي دعا إليه مثقفو الأمم المتّحدة.

وكانت هذه القضايا البارزة، الدافع لثورات الشباب التي هزّت العديد من شوارع العواصم العربيّة لتغيّر مسار المنطقة قبل نحو ست سنواتٍ من الآن؛ فقلة الفرص، وسوء الإدارة والفقر والجهل ساهمت جميعها في تفشّي سرطان التطرّف الذي نشهد تداعياته اليوم. وقد زاد العصر الرقمي وتخلّل التطرف داخل وخارج العالم العربي من الحاجة إلى معالجة هذه الضرورات الاستراتيجية.

يؤمن العالم بأن التطلّعات الاقتصاديّة لها ثقلها المهم في العمليّة التنمويّة، لكن تظل المبادرات التي تنتج حلولاً ملموسةً وذات معنى، وتفتح باب حوارٍ معاكسٍ للأيدولوجيات المتطرّفة لا تقل أهميّةً لفعاليتها في الحد من الفقر والجهل، وبالتالي خلق فرصٍ ومستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة في المنطقة، الأمر الذي يتطلب منا دائماً التركيز على الاستثمار في التنمية البشرية إلى جانب تطلعاتنا الاقتصادية.

وفي عام 2013، سلّط برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي الضوء على حقيقة أن نسبة العمالة إلى عدد السكان في المنطقة العربيّة هي الأدنى في العالم، حيث تبيّن أنها تبلغ 52.6% مقارنةً مع المتوسط العالمي البالغ 65.8%. ويرى البنك الدولي أن المنطقة تحتاج إلى توفير 100 مليون فرصة عمل للشباب على مدى العقدين القادمين، وهو ما يتطلّب تحولاً استراتيجياً متعدد الجوانب في السياسات، وعلى الصعيدين السياسي والتعليمي بشكل خاص، لضمان تهيئة بيئة تمكّن دور المواطنين، وتصقل المواهب، وتحتضن الطموحات وبالتالي تكسب العقول والقلوب.

ولطالما امتلكت القيادة الحكيمة لدولة الإمارات العربية المتحدة رؤيةً ثاقبة تستشرف المستقبل؛ فمنذ يومها الأول، وضعت الدولة التعليم والتمكين الاقتصادي والمشاركة السياسيّة ركائز أساسيّة يقوم عليها نسيج أمتنا.

واعتمدت الدولة ثقافة الشورى التي كانت وليدة نظام المجالس التقليديّة لتتطوّر وتُمَثّل رسمياً بالمجلس الوطني الاتحادي، ليتلوه تعيين ثلاث وزيرات دولة للسعادة والتسامح والشباب وإطلاق مبادرة الحلقات الشبابيّة، جميعها أمثلة تقف شواهد على ثقافة التعدّديّة والشموليّة التي تتمتّع بها الإمارات.

وبالتوازي مع تلك الجهود، تواصل دولة الإمارات العربية المتحدة الاستثمار في تطوير مشهد التعليم في البلاد، من خلال تخصيص حوالي 20 في المئة من ميزانية العام المقبل أو ما يعادل 10 مليارات درهم لقطاع التعليم، وهو ما يعد مثالاً واضحاً على التزامنا بتعزيز التعلّم والتخطيط لمرحلة ما بعد النفط.

ونتطلع نحن في وزارة التربية والتعليم باستمرار إلى تعزيز المناهج الدراسية والبرامج الجامعية التي تعمل على تأهيل وإعداد الطلبة لسوق العمل، إضافة إلى مساعدتهم على العمل في عالم متنوع ومتشابك. فنهجنا شامل ويتناول عملية التعلم من سن طلب المعرفة في الفصول الدراسية إلى مستويات الدراسات العليا في الجامعات.

إن جسر الفجوة المعرفية، ومحاربة الحلقة المفرغة من التطرف في منطقتنا وخارجها، يتطلب تعزيز التفكير النقدي والمهارات التحليلية، ومحو الأمية في وسائل الإعلام، وتمكين التفكير الشمولي الذي يتبنى قيم التسامح والحوار والاحترام والتنوع الثقافي وروح التعاون التي تسمح جميعها بتبادل الأفكار وتمكين الابتكار.

إحدى الطرق الفعّالة لبناء جيل يتمتع بالمرونة الفكرية والوعي هي الحرص على مراجعة وتعديل المناهج حسب الحاجة. وأخرى تكمن في مد جسور التبادل الثقافي وتمكين الطلبة من التعرف على الثقافات المختلفة وإرسال المتفوقين منهم للدراسة في الخارج.

وتدعم دولة الإمارات حالياً أكثر من 4000 طالب وطالبة في كل من الولايات المتحدة، وأستراليا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وإسبانيا، وسنغافورة، وكندا، ونيوزيلندا وآيرلندا وفرنسا والسويد، والصين، وفنلندا، وكوريا الجنوبية واليابان.

إن رفع معايير مؤسساتنا التعليمية، مثل جامعة خليفة، ومعهد مصدر، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، والجامعة الأميركية في الشارقة، وكذلك استقطاب المؤسسات الأكاديمية الأجنبية مثل جامعة باريس السوربون، وجامعة نيويورك، وكلية إنسياد، إلى الدولة يعتبر أمراً مهماً أيضاً لجهود التنمية البشرية في دولة الإمارات وتغذية جهود تنويع الاقتصاد واستشراف المستقبل.

وبالتزامن مع هذه الجهود، تعمل وزارة التربية والتعليم على تعزيز التعاون مع القطاع الخاص بشكل مستمر والاستثمار في توسيع قاعدة البحث العلمي والتطوير، في الوقت الذي تدأب فيه الوزارة على خلق وتنويع الفرص التي يمكن للشباب من خلالها نهل المعرفة والخبرات من رواد الأعمال العالميين.

ففي الشهر المنصرم، دخلت شركة سيمنز الألمانية، الرائدة عالمياً في مجال الابتكار والتكنولوجيا ومشاريع البنية التحتية، والتي تعد شريكاً موثوقاً لدولة الإمارات العربية المتحدة لأكثر من 40 عاماً، في اتفاق مع دولة الإمارات يتم بموجبه تزويد خريجي الجامعات بالمهارات والخبرات المهنية ليساعدوا في دفع عجلة النمو الاقتصادي المستدام في الدولة.

وفي شهر أكتوبر، عقدت دولة الإمارات العربية المتحدة وشركة جنرال إلكتريك شراكة استراتيجية حول برنامج للابتكار وتنمية المواهب يهدف إلى تهيئة الشباب الإماراتي لدخول سوق العمل في المستقبل.

وتفعّل الاتفاقية نقاط القوة المشهودة التي تتمتع بها جنرال إلكتريك في التدريب على القيادة، والتقنيات المتقدمة والابتكار. فمن خلال توسيع فرص البحث والتطوير وتحسين أداء جامعاتنا، سنتمكن من تنمية المواهب وتعزيز روح المبادرة لدى الطلبة في دولة الإمارات.

وفي شهر سبتمبر الماضي، أطلقت هواوي الصينية تحدي التعليم الذي من شأنه أن يساعد في زرع بذور التفكير الابتكاري، وتزويد الطلبة بالمهارات الإبداعية وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال التي تعد جزءاً لا يتجزأ من خطط تحول دولة الإمارات العربية المتحدة إلى مجتمع قائم على المعرفة.

وتتماشى هذه المبادرات مع جدول أعمال الأجندة الوطنية، ورؤية الإمارات 2021. فمن خلال البرامج والأنشطة التدريبية، تسعى جميع الأطراف إلى تعزيز فرص العمل المستقبلية للشباب والمساهمة في تطوير مهارات القوى العاملة في الدولة.

وأخيراً، فليس هناك وصفة محددة لعلاج التطرف، ولا توجد طرق مختصرة لتحديد المستقبل. ومع ذلك، يبقى التعليم هو المفتاح الأقوى والأهم لحماية الأجيال القادمة منه، ويمكن من خلاله تمكينهم وإعدادهم لمواجهة تحديات سوق العمل في ظل اقتصاد عالمي متغيّر وشديد التنافسية. وستبقى دولة الإمارات بقيمها النبيلة ورسالتها الإنسانيّة ومساعيها الجادّة شعلة أمل ثابتة تضيء مستقبل أمتنا.

* وزير الدولة لشؤون التعليم العالي

Email