الشهباء تقتات على خشاش الأرض

ت + ت - الحجم الطبيعي

حلب مدينة فريدة، فتاريخها عريق يمتد آلاف السنين قبل الميلاد المجيد، فهي صنوان لأقدم وأعرق مدن الدنيا مثل دمشق وأثينا.

وهي فريدة في حضارتها ومدنيتها، فخلال الحراك الإنساني الكبير عبر التاريخ سكن المدينة شعوب وقبائل شتى منهم الآراميون والهيليون والحثيون والسلوقيون والرومان والبيزنطيون، ثم سكنها المسلمون منذ عام 636م، كما هي فريدة بلقبها «الشهباء» وتعني «البيضاء» لأن اللون الأبيض كان يكسو رمالها وحجارتها.

وهي فريدة بمعالمها الحضارية المتعددة، ولعل أبرزها: قلعة حلب فهي مبنية على ربوة جميلة ترتفع 40 متراً عن المدينة، وقد وصفتها الرحالة الأثرية «جرترودبل» بالفنجان داخل صحنه. الفنجان هو القلعة والصحن هو مدينة حلب.

سجّلت قلعة حلب هذه روائع الصمود والتصدي على مر الأزمنة والعصور، فقد كانت ملاذاً آمناً لأهلها من الغزاة الطامعين، فعندما غزى الفرس المدينة عام 540م في زمن كسرى الأول تحصّن أهلها داخل القلعة فنجوا من مذابح المجوس، وبعد الفتح الإسلامي بقيت القلعة عصية على الغزاة البيزنطيين ثم الصليبين، ثم حاصرها المغول عام 1260م بقيادة هولاكو.

ودمّروا أسوارها والكثير من مبانيها ليعيد بناؤها لاحقاً السلطان المملوكي صلاح الدين بن قلاوون، ثم دُمرت ثانية على يد تيمور لنك عام 1400م ليجدد بناؤها السلطان الناصر فرج بن برقوق، ثم أصابها دمار كبير إثر زلزال عام 1828م وقد أصلح بنيانها العثمانيون، وتواصلت مسيرة التجديد والتغيير لتصبح اليوم معلماً مشهوراً من معالم الشام الحديثة، وكأن قدر الله ماضٍ أن يعمرها المسلمون ثم يأتي آخرون ويسعوا في خرابها ليعيد بناؤها المسلمون كرة أخرى.

وصل اليوم عدد سكان حلب إلى الخمسة ملايين نسمة وأصبحت العاصمة الاقتصادية للقطر السوري وفي عام 2006 فازت بلقب «عاصمة الثقافة الإسلامية»، وضمت قلعتها التاريخية والكثير من آثارها إلى التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. كما أنها مركز جذب سياحي كبير في بلاد الشام، ومركز عربي مهم لصناعة القطن والنسيج والجلود والملابس الجاهزة وصناعة الزيوت النباتية وغير ذلك.

تواصل حلب اليوم الصمود والتصدي فهي تتعرض لحرب إبادة لا تبقي ولا تذر فتقارير الأخبار تنقل كل يوم كم قضى نحبهم من أهلها وكم دمرت الحرب من مبانيها ومنشآتها وأصبحت تتلظى بنيران البغض والعداوة وحرب لا إنسانية أشعلها النظام الحاكم والإرهاب الصفوي والداعشي والدولي. الكل يتقاتل في حلب، والكل يصب حممه على سكانها ومساجدها ومستشفياتها ومدارسها.

فرض الإرهاب حصاراً محكماً حول حلب فحرم أهلها كل الاحتياجات الحياتية من مأكل وملبس وأدوية وخدمات طبية، فمن لم يقتل بالصواريخ والقنابل مات إما جوعاً أو أثر جروح خطرة أو من مرض لم يجد له علاج.

وقد حذر ستيفن أوبران مدير العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة أن شرق حلب لو ترك سوف يتحول إلى مقبرة ضخمة. وأكد مندوب كندا لدى هيئة الأمم التقارير الواردة من داخل المدينة أن بعض أهلها أجبروا على أكل الأعشاب وهكذا أصبحت الشهباء تقتات على خشاش الأرض بعد أن كانت عصب الاقتصاد السوري.

خرج من الشهباء نحو 20 ألف طفل خلال الأسبوعين الماضيين بعد أن سجلوا روائع الصبر وإباء النفس وشموخ العزة والكرامة، فعندما اخترقت القذائف والقنابل جدران الحديد والصلب إحدى منازل المدينة ظهر الشبل «عمران» من بين الخراب والركام أمام أجهزة الإعلام العالمية هادئاً صابراً محتسباً، فبكت عليه البواكي، أمّا الطفل عمران فلم تذرف عينه دمعة واحدة فَعِبَرُ التاريخ تجمعت أمام ناظريه ليقرأ من بين سطورها وعد الله تعالى «إن مع العسر يسرا».

أخفق مجلس الأمن الدولي حتى الآن في الحصول على إجماع أعضائه فيما يخص الحرب في سوريا. بالأخص فيما يخص وقف المجازر البشرية في مدينة حلب. وقد توجهت الحكومة الكندية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاستصدار قرار في هذا الشأن.

واجتمعت الجمعية العامة لكنها أصدرت قراراً غير متكافئ ولا يصل إلى الغاية المنشودة لإحلال الأمن والسلام. عليه حرصت الدول العربية والإسلامية على دعوة الجمعية العامة لاجتماع طارئ خاص بحلب وبحسب ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بالأمن والسلام العالمي بعد أن عجز مجلس الأمن من اتخاذ قرار مناسب وفعّال.

تعيش الشهباء سواد ابتلاء عظيم عجز المجتمع الدولي أن يحرك ساكناً يرفع الشر عن أهلها لتبقى الإنسانية حائرة لما وصلت إليه حضارة القرن الواحد والعشرين.

فهل من مدكر؟!

Email