الإعلام المصري ومؤتمر شرم الشيخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مؤتمر الشباب الجامع الذي استضافته مؤخراً مدينة شرم الشيخ المصرية، بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان لافتاً أن الشأن الإعلامي استقطب القدر الأكبر من اهتمامات الحاضرين من السياسيين والإعلاميين والرسميين وفئات الشباب على اختلاف توجهاتهم، ولم يكن هذا الاهتمام نابعاً من فراغ، بقدر ما فرضته ظروف موضوعية ترتبط بحرارة وسخونة الحوار ذاته، واستمرار رحلة البحث عن الذات بالنسبة لوضعية الإعلام في الحالة المصرية، والمستمرة منذ عقد من الزمان على وجه التقريب.

وتبقى للحالة المصرية خصوصيتها الشديدة بكل تأكيد في هذا المقام، ولكنها كذلك ترتبط بمفاهيم وتوجهات عامة لدى قطاع عريض له تأثيره القوي ومؤسسة ضخمة تمارس دوراً، ربما يتجاوز بكثير مؤسسات وأحزاب سياسية أخرى في كثير من البلدان، ما يستوجب متابعة التجربة وواقعها الملتبس عن قرب، وصولاً إلى صيغ ومواثيق عملية قد تلقي بظلالها على ربوع مختلفة.

والمهم في الأمر، أن الإعلاميين أنفسهم، ومن بينهم عدد ليس بالقليل من الصحافيين، اعترفوا بالمأزق المستمر للإعلام المصري، وعددوا من جانبهم عيوبه البارزة، وإن كان بعضهم قد حاول تبرير ذلك بغياب الأحزاب السياسية القوية والمؤثرة، فاضطروا للقيام بدورها عبر شاشات الفضائيات والقنوات التلفزيونية على اختلاف توجهاتها!

وبرغم تناول القضية ذاتها غير مرة على هذه الصفحات، إلا أن ما جرى في شرم الشيخ من حوارات، يفرض تناولاً جديداً لما يبدو بالفعل أنه مأزق شديد يعاني منه الإعلام المصري حتى اليوم، وليس أدل على ذلك من حالات الاستقطاب الحادة بين المؤيدين والمعارضين، لما يمكن تسميته بحالة الانفلات المهني والسلوكي في المؤسسة الإعلامية.

وبلغت بالمشاركين في الحوار، خاصة من «أبناء المهنة»، ممارسة جلد الذات، تعبيراً عما يرتكب من «جرائم مهنية» في حق المتلقي للرسالة الإعلامية والمجتمع ككل.

ولعل ما يستوجب التأمل المبدئي والتحليل في هذا الطرح، جملة من الأفكار الملتبسة التي يراها البعض محاولة من أنصار التحرر المطلق للممارسة الإعلامية، حتى ولو بشيء من «الانفلات»، بغض النظر عن درجته ومداه وتأثيره.

ومن بينها، على سبيل المثال، الخلط الشديد بين وسائل الإعلام الجماهيرية والمحددة مهنياً وأكاديمياً في الكتاب والصحافة والإذاعة والسينما والمسرح والتلفزيون من جانب، وبين وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر والميل والمواقع المرتبطة عموماً بالشبكة العنكبوتية على الجانب الآخر.

هذا الخلط دفع بعض الإعلاميين إلى اعتبار شبكات التواصل الاجتماعي، وسائل إعلام جماهيرية، يمكن الاعتماد عليها كوسائل أصيلة للأخبار والمعلومات، ولا نعلم إذا ما كانوا قد انتبهوا إلى طبيعة تسمية تلك الوسائل بـ «التواصل الاجتماعي»، وليس التواصل الإعلامي أو السياسي، أم لا.

وبرغم جماهيريتها وانتشارها السرطاني الكثيف والمعقد في فضاء إلكتروني يسبح فيه كل غث وسمين، إلا أنها لا ترقى أبداً إلى اعتبارها وسيلة اتصال جماهيري، كونها في التحليل العلمي والأكاديمي، تدور في نطاق دوائر مغلقة على أصحابها وأعضائها، ومهما بثت من أخبار أو موضوعات أو معلومات، فلا يجوز الاعتداد بها كأخبار صحيحة يمكن الاعتماد عليها والتعامل معها كحقائق.

وأهمية هذا الفصل، الذي يحتاج بالقطع إلى مزيد من البحث والدراسة لتكريس المفاهيم، بما ينطوي على ذلك من تحديد أدوار وممارسات واضحة، تكمن في أن وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية لن تصاب بحالة اللهاث الدائم أو الهوس والصخب في مطاردة وسائل التواصل الاجتماعي، التي تنشر آراء وأشياء تخص أصحابها في نطاق محدد يتم خلاله الاعتماد على الوسائل الجديدة سابقة الذكر، بدلاً من الهاتف والتلغراف والبريد وبطاقات المعايدة الموسمية.

وهنا، لا نقلل من أهميتها ولا من خطورتها، ولكن كل الشواهد تؤكد أن غياب المفاهيم والضوابط للوسائل الجديدة، خلقت حالة من الارتباك الشديد لوسائل الإعلام الجماهيرية، التي يجب أن تدافع عن هويتها ودورها بتكريس مهنيتها، بدلاً من الانزلاق في هوة الآخرين، هذا المطلب أصبح حاسماً، خاصة في ما يتعلق بالفضائيات والقنوات التلفزيونية.

ولكن على الطرف الآخر، كان الاستقطاب حاداً أيضاً، فتحول إعلاميوه من مذيعين ومعلقين، إلى محققين وقضاة وجلادين في أوقات كثيرة، بمظاهر انفلات وتجاوز مهني بلا حدود.

وذلك كرد فعل صريح لطبيعة التكوين التنظيمي في تلك الفضائيات، فمعظم العاملين فيها ليسوا إعلاميين في الأساس، وبعضهم صحافيون تحولوا إلى إعلاميين لسد الفراغ، والعديد منهم، للأسف الشديد، حققوا شعبيتهم بكثير من التجاوزات المهنية، والصراخ والعويل والصوت العالي في مناسبات أخرى، وشاهدنا على أيديهم مواقف لم يكن من الممكن تصور حدوثها، كالشتائم والألفاظ البذيئة والضرب المتبادل وإلقاء الميكروفونات على الأرض ومغادرة الاستوديو أمام الملايين.

للأسف، أن الإعلاميين عرفوا النجاح الواسع بهذه الوسائل والأساليب الملفوظة، وهي بالتأكيد مشاهد مرفوضة من جانب الشعب، ولم يعد في مقدوره أن يستمر على هذه الشاكلة، لذلك فمصر الآن تبحث عن إصلاح جوهري وشامل لقطاع الإعلام بكافة توجهاته، مع ظهور مواثيق شرف إعلامية جديدة، وهي حقائق أكدتها جلسات الحوار بين الشباب والكبار في مؤتمر شرم الشيخ.

 

Email