ما بين الفقر والشعور بالحرمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الممكن جداً أن تقل درجة الفقر في بلد ما، ولكن تزداد في الوقت نفس حدة الشعور بالحرمان، أن يصبح الناس أقل فقراً، ولكن أشد معاناة فيه.

وأنا لا أشك في أن هذا وذاك قد حدثا بالفعل في مصر، «وفي بلاد كثيرة غيرها»، خلال السبعين عاماً الماضية، فخلال هذه الفترة حدثت أشياء كثيرة من شأنها أن تقلل من درجة الفقر، ولكنها أيضاً تزيد الشعور بالحرمان.

أما عن تقليل درجة الفقر، فقد انتشر في أعقاب الحرب العالمية الثانية الكلام عن ضرورة النمو أو التنمية الاقتصادية في البلاد المتخلفة، أي رفع معدل نمو الدخل القومي بالمقارنة بمعدل نمو السكان، وهو ما لا بد أن ينعكس في زيادة نصيب الفرد من السلع والخدمات، أي تقليل درجة الفقر.

وهذا هو ما حدث بالفعل في مصر (وغيرها)، فتضاعف متوسط الدخل الحقيقي مرات عدة خلال السبعين عاماً الماضية، نعم كانت هناك فترات أفضل من غيرها في هذا الشأن.

ولكن حدث أيضاً في الخمسينيات والستينيات، اتجاه ملحوظ في السياسة الاقتصادية لدول عديدة نحو إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات الفقيرة، ما أدى أيضاً إلى تخفيض درجة الفقر، بصرف النظر عما حدث لمتوسط الدخل ككل، إضافة إلى هذا الاهتمام المتعمد بالنمو، وبإعادة توزيع الدخل، حدثت أيضاً أشياء أدت إلى تخفيض درجة الفقر دون أن تكون بالضرورة جزءاً من السياسة الاقتصادية، أهمها زيادة فرض الهجرة إلى دول النفط الغنية.

هذا عن انخفاض درجة الفقر، فماذا عن الشعور بالحرمان؟ كان من السهل قياس درجة الفقر، ولكن كيف نقيس درجة الشعور بالحرمان؟ الأولي تتعلق بحساب ما في الجيب، بينما تتعلق الأخرى بما يحدث في القلب.

حدثت أشياء كثيرة أيضاً خلال السبعين عاماً الماضية جعلت الفقراء أكثر شعوراً بالحرمان، بصرف النظر عما إذا كانوا قد أصبحوا أكثر أو أقل فقراً، أي حدثت أشياء كثيرة، ربما لم تقلل ما في جيوب الناس، ولكنها أدمت قلوبهم، فما هي هذه الأشياء بالضبط؟

إن الحراك الاجتماعي السريع نفسه من شأنه أن يحدث هذه النتيجة: أن تري البعض ممن كانوا بجوارك حتى الأمس القريب أصبحوا أكثر ثراء منك، فتتساءل عما إذا كان فيك أنت عيب منعك من الحصول عليه، بل وترى من كان أعلي مقاماً منك بالأمس القريب، فأصبح مثلك أو أقل منك، فتشعر بالخوف الشديد من أن يصيبك ما أصابه. إن هذا أو ذاك يجعلك تزيد التفكير في الأمر، وأن يصيبك بالحسرة على ما أنت فيه من حرمان أو بالخوف من الوقوع فيه.

في مثل هذا المناخ يضعف بشدة الميل القديم إلى «الرضا بالنصيب»، وهو ميل توارثناه من عهود طويلة من السكون والركود، ليس معنى هذا بالضرورة أن يقل التعبير عن هذا الرضا بالنصيب، وذكر مزايا الصبر وعيوب الطمع، ولكن الكلام شيء والشعور الحقيقي قد يكون شيئاً آخر.

من المؤكد أيضاً أنه قد حدث تغير كبير، أدى إلى نتيجة مماثلة، في نظرة الفقراء إلى مستقبل أولادهم وبناتهم. الحراك الاجتماعي السريع يفعل ذلك وكذلك التعليم، ولكن يفعله أيضا مجرد الجلوس أمام التلفزيون وكثرة السلع المعروضة في الأسواق، ورؤية السلع التي أتي بها من قضى فترة في الخارج.

هناك شيء آخر يفت في عضد الجميع، ويزداد انتشاره في العالم كله، وهو الاختفاء السريع للسلع والخدمات، التي كان من الممكن الحصول عليها دون نقود.

لقد كنا نعرف دائماً أن الفقر في الريف أقل وطأة بوجه عام منه في المدن، بصرف النظر عن حجم الدخل، وذلك لأن من الأسهل نسبياً الحصول على سلعة أو خدمة مما نحتاج إليه في القرية دون شرائها بالنقود، ولكن لاحظنا خلال السبعين عاماً الماضية، كم استفحل الأمر في المدينة والقرية على السواء. إن من الصعب الآن أكثر فأكثر، أن تلبي حاجة من حاجاتك دون أن تكون مستعداً لها بمبلغ من النقود.

في مثل هذه الظروف يكثر لجوء أرباب العمل إلي «توظيف» رجال ونساء دون أي التزام بدفع أجور لهم، إذ يخيرونهم بين الاعتماد الكامل علي البقشيش، أو عدم توظيفهم أصلاً.

ويقبل الرجل أو المرأة ذلك، على أمل أن يتفننا في ابتداع وسائل لاستدرار النقود من الزبائن، دون أن يقدما لهم في الحقيقة أي شيء في مقابلها. إن مثل هذا يدخل بالطبع في ما تسميه التقارير الإحصائية الدولية «بالاقتصاد غير الرسمي».

Email