الليبرالية الإسلامية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عُرِّفت الليبرالية على أنها حركة أو فلسفة سياسية تهدف للوصول إلى تحقيق العدل والإحساس بالحرية في اتخاذ جميع قرارات الحياة، وتتميز في أنها تمنح معتنقيها الديمقراطية، حيث لا تُجبر أي فرد على اعتناق دين أو مذهب أو حتى فكر معين، فلهم الأحقية في الاختيار والاتباع.

هذا ما جاء في تعريف الليبرالية في العديد من المراجع، لكن وبالنظر إلى التعريف المتعارف والمستخدم بين أفراد المجتمع على أنها الحركة أو الفكر الذي يجعل الشخص ينتقد الدين أو المذهب أو القيم والعادات التي ينتمي إليها، فتجد نفسكَ مُعرَّضاً لأن تُتهم بأنك ليبرالي في كل مرة تنتقد فيها رجل دين، أو أسلوباً يستخدمه بعض الدعاة والوعاظ، يتهمون به بعض المفكرين والكتاب وأصحاب الرأي، والحمد لله أن أحد المقربين مني والعزيز على قلبي، والذي أكن له احتراماً وتقديراً كبيراً قد برَّأني من هذه التهمة بعد مقالي المنشور الأسبوع الماضي «جدار برلين»، حيث قال: «لولا معرفتي بالدكتور يوسف لقلت عنه ليبرالي».

إن كانت المناداة بضرورة إعادة صياغة مفاهيم مغلوطة شكَّلها البعض لتتنافى مع قيم الإسلام تُسمى ليبرالية إسلامية، فأنا أول ليبرالي إسلامي يعترف بأنه ينتمي إلى هذا الفكر، فهناك الكثير من الأمور الموضوع عليها علامات استفهام تستوجب منا التفكر والاجتهاد لكي نخرجها بقالب جديد يتناسب مع طبيعة حياتنا اليوم.

وللأسف نحن لا نملك الشجاعة لقول ما تمليه علينا عقولنا، وما تعلمناه في علومنا، وما اكتشفناه في تفاسيرنا واجتهاداتنا، ومَرَدُّ ذلك إما لخوفنا من التهم الجاهزة والمُقَوْلبة كالليبرالية وغيرها، أو أن عقولنا محجمة التفكير فعلاً، وفي كلتا الحالتين علينا أن نعترف بالذي يمنعنا من القيام بذلك، على الرغم من تعدد الآيات التي نادى بها سبحانه وتعالى عباده بوجوب التفكر والتعقل.

إن إيماننا يجعلنا ندافع وننادي بصوت عالٍ أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فهذا أمر لا يشوبه خلاف، أو يعتريه جدل؛ فمرجع تلك الصلاحية أنه جاء بخطوط عريضة، وتفاصيل عامة، وترك باب الاجتهاد للتفاصيل الصغيرة؛ فقد وضع لنا الخطة والمسار العام وترك لنا حرية اختيار الأسلوب لتنفيذ هذه الرؤى. فالإسلام ليس حركة سياسية أو أسلوباً اجتماعياً، ولا هو بدين للعبادة فقط، بل هو منظومة فكرية اجتماعية سياسية حياتية تنظيمية نستطيع من خلالها المضي بالطريق السليم والصحيح في الدنيا قبل الآخرة.

وعلى الرغم من مناداتنا بأنه صالح لكل زمان ومكان إلا أننا أصبحنا محجمين فكرياً باتباعنا لجميع ما جاء به الرعيل الأول من فكر واجتهاد، فهم في النهاية مثلنا، يُخطئون ويُصيبون، فلا داعي لأن ندافع عن كل ما جاؤوا به، ونتناسى أن الله عزَّ وجلَّ ميَّزنا بالعقل لنتفكر، وإلا لخلقنا من دون عقول، وجعلنا نسيِّر أمورنا بالتقليد والتشبه وما وجدنا عليه آباءنا وما وجد آباؤنا آباءهم عليه وهلم جراً، ولو أراد أحدنا الرد فإما أن يكون برأي مذهب آخر فيعتبر بالنسبة له وإلا فإنه «ليبرالي».

دائماً ما نعيب زماننا، ونصفه بأنه أسوأ الأزمان التي مرَّت في تاريخنا على الرغم من وجود مقومات كثيرة ومنجزات لم يسبق لها الحدوث؛ أهمها التنوع والاختلاف والتباين الذي علينا أن ننظر إليه نظرة إيجابية، وعلى أنه سينور عقولنا لأن ندرك الأسلوب الرباني الأمثل لنا والمتمثل بتعاليم الإسلام بأكملها، وماهية وأبعاد العبادات المفروضة علينا.

لذا دعونا نعتبر أصول الدين الإسلامي نموذجاً ربانياً نتعلم من خلاله الماهية التي ندير بها الأرض، والطريقة المثلى للذودِ عن مكتسباتها، وكيفية الحفاظ على البشرية، والنفس، والروح، والجسد. فلو تفكرنا بجميع العبادات والتعاليم الإسلامية فسنجد أن جميعها وبلا استثناء ستعود علينا بالنفع الدنيوي قبل الأخروي.

هذا الفكر الذي علينا أن نؤسسه، سواء أسميتموه ليبرالياً، اشتراكياً، علمانياً؛ فالذي يهمني منه أن يكون فكراً جديداً نيراً يجعل البشرية كافة تنظر إلى الإسلام كحل أمثل لما تعانيه المجتمعات من مشكلات، وتجعل الحكومات تدرك فاعلية الحلول والأساليب التي نادى بها ديننا الحنيف لكيفية إدارة الأموال العامة، والحرب والسلم، وأيضاً السياسات الخارجية والداخلية، والطرق المُثلى للحفاظ على الأمن والأمان، ونشر العلم والعلوم، وبناء مجتمع متماسك.

لقد آن الأوان أن نتخلص من هذه المسميات البالية، ونؤسس لحركات فكرية سياسية جديدة منبثقة من ديننا الإسلامي الحنيف ومقوماته وفكره، ومستمدة من إرثنا وموروثنا العربي، ومنسجمة مع إنسانيتنا وذات أبعاد ورؤى مستقبلية مستخدمين بذلك أدوات العصر، ومستحدثين بها طابعاً خاصاً يدعو إلى الانفتاح الفكري مع ثبات القيم، ومتمسكين بثوابت ومقاصد ديننا لكن بأسلوب مُحَدَّث، وأن نتخلص من المحظورات التي كُتِبَ عليها «ممنوع الاقتراب»؛ فالإسلام الحقيقي جاء منادياً بحركة العقول، مغيراً الفكر والمنهج وليس فقط السلوك من أجل الجنة والنار.

إن كنت حراً فلا تخف من أن تدلي برأيك حتى ولو مُنع وحُجِّم، فهناك ملايين الطرق لإيصال فكرك الحر «الليبرالي»، ولا تخف من هذه المسميات؛ فسرعان ما تذوب وتنتهي «موضتها». لهذا أنا ليبرالي من الآن وصاعداً، واشتراكي إن رأيت به ما هو خير لي ولأمتي، وعلماني إن كان به صلاح لوطني، وأنا إسلامي لما أنزله الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ما أضعناه بسردنا للتاريخ.

Email