الشرق الأوسط في الفكر الأميركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مدى أربعة أيام، من 17 إلى 20 نوفمبر الجاري احتشد نحو 2500 من العلماء والباحثين والمختصين المهتمين بشؤون الشرق الأوسط، يعرضون أفضل ما أنتجته عقولهم خلال عام، من أبحاث وأطروحات وأفكار ورؤى، أربعة أيام حافلة بالأنشطة الثقافية والمناقشات الفكرية.

في مدينة بوسطن في أقصى الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأميركية انعقد الاجتماع السنوي لجمعية دراسات الشرق الأوسط، التي يندرج في عضويتها الدارسون والمختصون بمختلف موضوعات الشرق الأوسط في أميركا الشمالية، ومن مختلف أنحاء العالم، وقد كان هذا الاجتماع ذا طبيعة خاصة لأنه شهد احتفال هذه الجمعية المعروفة اختصاراً باسم «ميسا MESA» بمرور خمسين عاماً على تأسيسها في 1967.

وعلى الرغم من الحضور المكثف للمتخصصين في دراسات الشرق الأوسط من جميع أنحاء العالم، إلا أن حضور أبناء الشرق الأوسط من العالم العربي كان ضعيفاً جداً، وهامشياً وغير مؤثر، وذلك لندرة وجود مراكز الأبحاث وبيوت الخبرة Think-tanks في العالم العربي، وعدم انشغال العقل العربي في كثير من البلاد العربية بالعلم والبحث العلمي.

خلال الأيام الأربعة، تم تنظيم 312 ندوة تخصصية، في كل ندوة يتم تقديم ما لا يقل عن أربعة بحوث ذات صلة بموضوع الندوة، هذه الندوات استعرضت موضوعات كلها تتعلق بالشرق الأوسط، وشملت مجالات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وغيرها.

ومن الأمثلة على ما تم طرحه ونقاشه: الإصلاح السياسي والاجتماعي والديني في عصر التواصل الاجتماعي، التبادل الفكري العربي الإيراني والمناكفات السياسية، اليمن: من الإحياء الزيدي إلى التوسع الحوثي، وهناك العديد من الموضوعات التي لا يتسع المجال لذكرها.

هذا التجمع الذي يحتشد فيه آلاف المختصين، منذ تأسيس الجمعية قبل خمسين عاماً، يعقد اجتماعه كل عام في إحدى المدن الأميركية، يتم تنظيمه بدقة مذهلة، وحرفية عالية. وتقتصر مسؤولية الجهة المنظمة على حسن الإعداد، من حيث المحتوى وتحقيق أهداف الملتقى دون هدر الوقت والجهد والمال في الأمور الإجرائية اللوجستية للمشاركين.

لذا، لا تجد في تنظيم هذا الحدث الكبير جهازاً بيروقراطياً كبيراً، ولا عبئاً مالياً ضخماً. يقدم الباحثون أوراق عملهم وبحوثهم للجنة التقييم التي تقرر مدى ملاءمة البحث لأغراض المنتدى وأهداف كل ندوة.

يستحيل على أي مشارك حضور كل جلسات وندوات التجمع، لذا على المرء، ومن أجل تحقيق الاستفادة القصوى من ضخامة هذا الحشد، وكفاءة الحضور، أن ينتقي ما يتوافق مع اهتماماته ومجالات تخصصه.

ما يتم عرضه في اجتماعات جمعية دراسات الشرق الأوسط، وخاصة الأحداث الجارية في المنطقة، ورصدها من قبل أولئك الباحثين يؤكد ضرورة وجود مراكز البحوث المتخصصة التي ترصد الوقائع، وتحلل الأحداث، وتستشرف المستقبل، من خلال قراءات تاريخية وواقعية لمجريات تلك الأحداث.

أذكر أني حضرت ندوة في اجتماع عام 2012 حول الشأن اليمني، نظمها المعهد الأميركي للدراسات اليمنية، وكانت الندوة بعنوان: اليمن بعد علي عبدالله صالح! وقد دق المشاركون في تلك الندوة ناقوس الخطر، وظهرت إشارات قوية تحذر من التمدد الحوثي.

في تلك الندوة تم عرض خطط الحوثي وشوكتهم التي بدأت في الاستقواء؛ حيث كانت البداية من معقلهم صعدة، ثم سيطرتهم على نحو 10000 كيلو متر مربع من مساحة البلاد، وامتلاكهم ميناءً بحرياً، وإنشائهم قناة تلفزيونية فضائية!

وقد شاهدنا كيف تمكن الحوثيون وحلفاؤهم من قوات المخلوع، وبدعم إيراني من اقتحام العاصمة صنعاء، والانقلاب على الشرعية بعد ذلك التاريخ بعامين فقط.

وهو الإجراء الذي أحدث زلزالاً سياسياً وأمنياً في المنطقة بأسرها، وقد نتج عن ذلك كما هو معروف، استنجاد القيادة الشرعية اليمنية بالمجتمع الدولي والأشقاء العرب، ثم كانت الهبّة التي قام بها التحالف العربي بقيادة السعودية لاستعادة السلطة الشرعية وفقاً لقرارات مجلس الأمن.

وفي هذا العام، قام المعهد الأميركي للدراسات اليمنية بتنظيم ندوة أخرى بعنوان «اليمن: من الإحياء الزيدي إلى التوسع الحوثي»”، وكانت إيران حاضرة، أثناء المناقشات بمشروعها الطائفي التوسعي.

وقد ذكر المتحدثون في اجتماع هذا العام بأنها - أي إيران - أكبر المستفيدين من إطالة أمد الأزمة اليمنية، وإدامة حالة عدم الاستقرار والتأزم في المنطقة. وذكروا أمثلة على تدخلها في العديد من الدول العربية التي صدّرت إليها ثورتها من خلال خلق الميليشيات الطائفية الموالية لها.

ولعل أهم درس يمكن أن نخرج به من هكذا اجتماع، وما تضمنه من أنشطة وفعاليات، أن العالم العربي في حاجة لأن يكون فيه شبكة واسعة من مراكز البحوث، التي تمثل بيوت خبرة Think- tanks، ترفدها أقسام متخصصة في الجامعات، وتنظمها جمعية مثل هذه، وفي هذه الحالة فقط، نستطيع أن نفهم الواقع، ونستشرف المستقبل، ونسهم في تشكيله، فاعلين في صياغته ورسمه وفق مصالح وأجندات وطنية.

أرجو أن يتحقق ذلك، وأن تقوم الإمارات بهذه المهمة الحضارية الرائدة، وهي التي عودتنا دائماً على المبادرات العظيمة.

Email