مصر تنطلق لعصر جديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

جزء كبير من الاضطراب السياسي الذي يحدث أحياناً في مصر مصدره غياب المعلومات الكافية لفهم خطوات أو مشروعات بعينها. والمعلومات نوعان: التعبير عن حقائق موضوعية، وكلما كان ذلك رقمياً أو كمياً تصبح المعلومة أكثر وضوحاً؛ والمنطق الذي تقوم عليه المعلومات فتصبح نوعاً من المعرفة اللازمة للفهم.

النوع الأول من المعلومات كثير، فنحن نعرف أن هناك مشروعات خاصة بمنطقة قناة السويس، ولدينا معلومة خاصة بإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة (اقترحت من قبل أن يكون اسمها طيبة) كما أن لدينا معلومة أخرى لبناء مدينة العلمين، وثالثة خاصة بمشروع المليون ونصف مليون فدان، وهكذا معلومات تتعلق بسياستنا الداخلية والأخرى الخارجية مثل زيارات الرئيس السيسي لدول في الخارج، وعقد اجتماعات فردية أو جماعية مع أكثر من رئيس، وتصويت مصر في مجلس الأمن وهكذا معلومات وموضوعات.

التفاصيل كثيرة ويمكن ببعض من البحث العثور على الأرقام المعبرة عنها. وثيقة ٢٠٣٠ المصرية يفترض أنها تقوم بهذا الدور لأنها تضع كل المعلومات المصرية في أنساق التطور خلال العقد ونصف القادمين. ولكن الوثيقة إما أن أحداً لم يقرأها، أو أنه جرت قراءتها ولكنها مع الزمن تروح في النسيان.

سوف أترك ذلك جانباً وأحاول قراءة ما يجري في مصر من منطلق السياسات العامة.

بالطبع يمكن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه السياسات، ولكن علينا أن نعرفها أولاً، أو نعرف منطقها، حتى لا نتعامل معها بالقطعة. الحقيقة الأولى التي يمكن فهمها مما يجري هو أن الرئيس السيسي والحكومة المصرية تحاول تحريك الاقتصاد المصري من خلال حزمة كبيرة من مشروعات البنية الأساسية التي ترفع الطلب على صناعات كثيرة أساسية وتجعل الدولة كلها قابلة للمزيد من الاستثمارات.

وهو وسيلة ذائعة لتحريك اقتصاد أعياه الركود أو الاستنزاف؛ وعندما جرت الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى في الولايات المتحدة عام ٢٠٠٨ كان الخروج من الأزمة في عهد أوباما هو تحريك الاقتصاد من خلال حزمة هائلة من مشروعات البنية الأساسية.

وخلال الأعوام الثلاثة الماضية أشهد أن ثلاث مدن رئيسية عشت فيها (بوسطن وواشنطن وهيوستون) أصبحت الآن غير ما كانت عليه من قبل، ومعها وغيرها نهض الاقتصاد الأميركي مرة أخرى.

الحقيقة الثانية أن مشروعات البنية الأساسية التي شرعنا فيها فضلا عن تحريكها للاقتصاد فإنها تقوم «بتربيط» مصر بين النهر والبحر، والبحر الأحمر والآخر الأبيض، والوادي والصحراء. المساحة المركزية فيها تدور حول قناة السويس، وتشكل القناة على جنبيها شرقاً وغرباً وفرع دمياط وامتداده في الدلتا حد المثلث الشرقي والغربي.

مدينة العلمين الجديدة، مع مرسى مطروح، تخلق محوراً تنموياً للساحل الشمالي غرب الإسكندرية وفرع رشيد النهري وكلها موازية للطريق الدولي على ساحل البحر الأحمر. الجيل الجديد من المدن الجديدة في الصعيد، مضافاً إليها نصيب كبير في مشروع المليون فدان خاصة في محافظة المنيا يلتحم شرقاً مع المثلث الذهبي بين قنا وسفاجا على البحر الأحمر.

وواحة الفرافرة لا تمثل منطقة للتنمية، وإنما هي محور لحياة جديدة في الوادي الجديد.

الحقيقة الثالثة أن هناك وعياً متزايداً أنه بقدر ما كان النيل محورياً في بناء الدولة المصرية منذ آلاف السنين؛ فإن البحر الأحمر (وخلجانه العقبة والسويس) والبحر الأبيض المتوسط تنازعا تاريخ مصر بين المشرق العربي والجزيرة العربية من ناحية، وأوروبا والغرب من ناحية أخرى.

وبينما كان التأثير المتوسطي غالبا خلال الفترة الليبرالية الملكية في تاريخ مصر الحديث، فإن الفترة الجمهورية شهدت طغيان الجانب المشرقي على السياسة الخارجية المصرية. ورغم أن علاقات مصر بكل من اليونان وقبرص كانت دوماً جيدة، فإن ذلك اقتصر دوماً على البعد السياسي.

وخلال المرحلة الراهنة ربما لم نشهد من قبل ذلك القدر من اللقاءات بين رئيس مصر وقيادتي اليونان وقبرص حتى بدا أمراً مدهشاً ومثيراً للعجب.

صحيح أن بزوغ نجم الطاقة غازاً ونفطاً في منطقة شرق البحر المتوسط ترتب عليها ترسيم الحدود البحرية مع البلدين، فإن ذلك فتح الباب واسعاً لمنطقة للتكامل الإقليمي وسيادة نوعية جديدة من السياسة الإقليمية تكون قاعدة الانطلاق فيها هي مصادر الطاقة ولكنها لن تكون آخرها.

وبقدر ما كان الحديد والصلب هو القاعدة التي انطلق منها التعاون الأوروبي ومن التعاون إلى التكامل، فإن الطاقة بما تفرزه من إنتاج واستهلاك وأسواق وتصنيع يعطي لمصر مزايا تنافسية جديدة من حيث إنها أكبر الأسواق المنتجة والمستهلكة معاً، فضلا عن موقعها الجغرافي المتميز، وما لديها من قاعدة صناعية للحديد والصلب والسماد وتسييل الغاز.

وفي اجتماع القمة الأخير في القاهرة دار الحديث عما هو أكثر من الطاقة، والنفط والغاز، وأشجار الزيتون.

هل هناك حقائق أخرى تلم ما تبعثر؟ نعم!.

Email