تحدي القراءة العربي والنهوض الثقافي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما يجري اليوم في وطننا العربي هو نتيجة أزمات عدة، من بينها ولعل أخطرها الأزمة الثقافية التي تعصف بمجتمعاتنا، حيث ظلّ المجال مفتوحاً لبروز القوى المتطرفة والظلامية لتنشر فكرها، وتستحوذ على شريحة لا يستهان بها من الشباب العربي والمسلم. ولا أدل على ذلك التمدد السرطاني لداعش وأخواتها من التنظيمات التكفيرية.

وساهمت تكنولوجيا الاتصال في سهولة نشر أفكارها عبر الوسائط الاجتماعية، حيث بات انتشار أفكار تلك التنظيمات عابراً للقارات، وباتت ممارساتها الإرهابية تتجاوز حدود المكان الجغرافي، وتتجاوز حدود العقل وتتخطى المبادئ الإنسانية والقيم السمحة التي نادى بها ديننا الحنيف والقيم التي بشرت بها كل الأديان والمعتقدات.

ويكمن جزء من الأزمة الحقيقية لدى معظم البلدان العربية في كونها تنازلت عن اعتبارها مسؤولة عن تحقيق مشروع ثقافي مستنير خاص بها، بمعنى أن يكون لها خططها واستراتيجيتها الثقافية التي يجب أن تُطرَح وتُناقَش ثم يتم تجسيدها على أرض الواقع.

لقد أنفقت الدول العربية على الرياضة أضعاف ما أنفقته على الثقافة، وهذا لا يعني دعوة لإهمال الرياضة، ولكنها دعوة لإعطاء الثقافة موقعها المتميز في البناء الثقافي للمواطن الصالح والمتوازن فكرياً.

لقد حاولت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) التابعة لجامعة الدول العربية طرح استراتيجية ثقافية في الثمانينيات من القرن الماضي، والمتابع لها يمكنه أن يدرك أن الاستراتيجية التي وضعتها الالكسو ومن بعدها استراتيجية منظمة «الإيسيسكو» الإسلامية إنما هي مشاريع على الورق، إذ أن الدول القطرية لم تستجب لها، ولم تقم هذه الدول بتنفيذ استراتيجيات ثقافية عملية خاصة بها. وحينما كانت تقوم بإعداد خطط التنمية فإن الموضوع الثقافي يبرز فيها على استحياء.

لذا فإن الثقافة باتت جزءاً تجميلياً لوجه السلطة أحياناً وجزءاً مكملاً لواجبات دستورية في أحيان أخرى. ولعل أحداث سبتمبر أصابت العديد من الأنظمة بالذعر من فكرة الثقافة، وخشيتها من أن ما يمكن أن ينتج عنها من مقومات فكرية لا يمكن السيطرة عليها، ولذا آثرت الراحة والابتعاد عن المشروع الثقافي وجعلت ميزانيات وزارات الثقافة تأتي في ذيل موازنات الدولة.

ولعل الملفت للانتباه أن حيوية الأمة تحاول تجاوز القصور، هذا القصور عبر رؤى قيادات عربية ومؤسسات غير حكومية وأفراد يعملون على دعم الثقافة العربية من خلال مشاريع فردية على امتداد الوطن العربي ومنها الجوائز الممنوحة للكتاب والنشر والترجمة الذي تتبناه هذه المؤسسات والمهرجانات ودور البلديات والمؤسسات الأكاديمية. وخلال السنوات العشر الأخيرة تبنت دولة الإمارات العربية المتحدة مشاريع ثقافية مهمة لخدمة الثقافة العربية والإبداع العربي على مستوى قومي من خلال مؤسسات ثقافية ومراكز بحث وجوائز عربية وعالمية للإبداع والترجمة التي توفر منصات للتفاعل الفكري والنشر والتفاعل الثقافي العربي في عالم يتوجه نحو بناء مجتمعات المعرفة.

ومن بين هذه المشاريع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم 2007م التي تهدف إلى تأسيس مجتمعات قائمة على المعرفة والبحث في العالم العربي، وذلك لتدعيم الأفكار والابتكار، وتهتم بركائزها الأساسية على التعليم وريادة الأعمال والبحث والتطوير.

وكان من أهم المشاريع مبادرة سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الثقافية «مشروع تحدي القراءة العربي» الذي يهدف إلى تنمية حب القراءة لدى جيل الأطفال والشباب في العالم العربي، وغرسها كعادة متأصلة في حياتهم وتؤدي إلى تنمية مهارات الطلاب في التفكير التحليلي والنقد والتعبير، وتعزيز قيم التسامح والانفتاح الفكري والثقافي لديهم. وفي توزيع جوائز تحدي القراءة العربي تم إعلان إحصائيات «سباق التحدي» عن مشاركة، 15 دولة ضمن التحدي، وبلغ إجمالي المتنافسين في مراحل التحدي المختلفة، على مستوى الوطن العربي أكثر من ثلاثة ملايين ونصف، وإجمالي الكتب التي تمت قراءتها 175 مليون كتاب من مختلف المعارف.

إن هذه الأرقام تُثلج الصدر وتُبشّر بالخير بوجود جيل جديد من أبنائنا سيسهم في النهوض الثقافي وتجاوز الأزمة الثقافية.

وفي حفل تكريم الفائزين اعتبر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن «تحدي القراءة العربي» هو رسالة من الإمارات بأن سلاح العرب كان وسيبقى المعرفة والعلم والفكر المنفتح، وأن العالم العربي اليوم لا يعيش أزمة قراءة ومعرفة بقدر ما يعيش أزمة حوافز وبيئة إيجابية وعمل مشترك يتعاون فيه المسؤولون والتربويون وأولياء الأمور على تشجيع أطفالنا وطلابنا على استنهاض عزيمتهم وتوسيع مداركهم والإقبال على القراءة والمعرفة بشغف.

ولخّص صاحب السمو تجاوز الأزمة الثقافية بقوله: «القراءة والمعرفة طريقنا الأقصر لاستئناف الحضارة في المنطقة وأنّ حفظ لساننا العربي وثقافتنا الإسلامية وهويتنا التاريخية الأصيلة يبدأ من القراءة».

إن القراءة هي أساس الثقافة التي تبني الإنسان، ونحن في الوطن العربي بحاجة ماسة لأن تكون الثقافة ودعمها من أولويات خطط الحكومات والمنظمات غير الحكومية، ونحن بحاجة ماسة إلى مشاريع تخدم الثقافة العربية بحجم ما تقدمه الإمارات من مشاريع تسعى للنهوض الثقافي للأمة العربية على مستوى قومي.

Email