نواصل مطالعتنا للكتاب الذي أسس لما تطبقه أميركا حتى الآن من سياسات تستند إلى عنجهية القوة المفرطة، ففي كتابه المعنون «الحرية والثقافة» كان جون ديوي واضحاً تماماً حتى بالنسبة لعملية التحرر الوطني.

وفي فصل بعنوان «الأساس الأميركي» فهو يسأل «ترى ما الذي فرض الصبغة الديمقراطية على حركة الاستقلال؟» ويجيب «أن ما دفع زعماء الثورة إلى مقاومة الوجود البريطاني كان بسبب القيود التي فرضها الانجليز على التجارة والصناعة في أميركا وما فرضوه من ضرائب وعوائد مرهقة.

فوصف زعماء الثورة هذه الإجراءات بأنها تقييد لحقوق الإنسان الطبيعية في الحرية، بينما كانت في الأساس مجرد شكاوى من تجبر اقتصادي يستهدف إضعاف القوى الاقتصادية الأميركية الناشئة، ثم يقول صراحة «إن الدعاوى التي تحدثت عن الحرية والحكم الذاتي كانت مجرد خداع متعمد قصد به حشد الجماهير الذين ما كانوا ليحتشدوا في جيوش الثورة دفاعاً عن مصالح اقتصادية للأغنياء.

فالحقيقة هي أن زعماء الثورة حولوا القيود الاقتصادية التي فرضت عليهم إلى قيود تعبر عن ظلم وطغيان شاملة، فدفعوا الجماهير إلى القتال بزعم أنهم يكافحون في سبيل الحرية» [صـ56].

ثم يتهكم جون ديوي على من كتبوا تاريخ حرب التحرير قائلاً إنهم لم يدركوا «أن أي شيء يحدث تحت ستار الادعاء بالتمسك بالحرية تمسكاً يدفعهم للتضحية من أجلها، لم يكن في واقع الأمر سوى محاولة لدحر ظلم اقتصادي.

وما أن زال ذلك الظلم حتى انتقل المقاتلون من الحرب دفاعاً عن الحرية وحباً لها إلى الاستمتاع بالمكاسب الاقتصادية التي حصلوا عليها»، ويعلن جون ديوي دون خجل «القوى والمصالح الاقتصادية هي وحدها التي تدفع الجماهير إلى العمل الجماعي».

وهنا يسأل جون ديوي سؤالاً يوضح به قيمة الحرية وحوافز الدفاع عنها فيسأل ما هي الفروق الأساسية بين وثيقة الاستقلال التي حاربت الجموع من أجل تحقيقها وبين الدستور الأميركي؟ الفارق تحدده صراحة أن وثيقة الاستقلال كان مطلوباً منها حشد الجماهير كي تحارب باسم الدفاع عن الحرية، وأن تتحد ضد عدو أجنبي ظالم..

أما الدستور فإن أصحاب المصالح الاقتصادية الأساسية كانوا يضعون فيه قيوداً ضد هجمات الجماهير التي تتخذ شعار الحرية سبيلاً للهجوم على رجال الأعمال. ويتكلم جون ديوي بصراحة مؤكداً «أن التقدم الاقتصادي يؤدي بذاته إلى خلق تأثير مضاد للديمقراطية بل يمكن القول إن هذا التقدم الاقتصادي قد هدم جوهر الديمقراطية.

وهو يرى أن هدم هذا الجوهر هو هدم حاسم وبات، ذلك أن البعض قد يحاول القول إنه لم يعد ثمة سبيل لإعادة الديمقراطية السياسية إلا بفرض قوانين لتأميم الصناعة والمؤسسات المالية ومن ثم جعلهما ديمقراطيتين، إلا أن التكوين الفكري المتراكم لدى الأميركيين سوف يدفعهم إلى معارضة هذا التوجه بحجة أنه إهدار لنظم الحياة الأميركية.

وإذا كان ديوي قد كتب كتابه الذي بين أيدينا عام 1939 أي في ذروة نهوض الفاشية والنازية في أوروبا فإنه يقدم نموذجاً لتناقض فكري تورثه قضية الموقف من الحرية.

فالبعض كان يتصور أن العمل على نشر التعليم والإكثار من المدارس العامة سوف يؤدي بذاته إلى تخلق مناخ تسوده الديمقراطية والحرية، بينما يلاحظ ديوي أن التعليم الذي يرمي إلى محو الأمية قد يصبح أداة في أيدي الطغيان الحكومي، بل أنه يؤكد دون دليل فعلي أن السبب الحقيقي في ترقية التعليم الابتدائي بالذات في أوروبا كان تلبية للحاجة لزيادة القوة العسكرية.

ثم يأتي جون ديوي ليناقش قضية المساواة كأحد أركان فكرة العدالة التي ترى أن يكون الناس متساوين وأحراراً. ولكن الحديث عن المساواة عنده هو مجرد حديث أخلاقي لا وجود فعليا له، فوجود تفاوت واضح بين الناس في المواهب والصفات النفسية كان سبباً في أن خلق فارقاً بين المساواة الفعلية والمساواة القانونية التي تتردد في مواد القانون دون أن تنفذ فعلياً.

لكنه يعود ليؤكد أهمية المساواة القانونية حتى ولو كانت شكلية إذ بدونها يستطيع أصحاب المواهب ـ قصداً أو حتى بدون قصد - الحط من شأن الأقل موهبة بل ووضعهم في مركز يقترب من العبودية.

ويمضي ديوي بعد ذلك متهكماً على عبارات مثل تلك التي وردت في مواثيق حقوق الإنسان والتي تقول «إن الناس جميعاً خلقوا أحراراً متساويين بالفطرة» قائلاً إنها عبارات أخلاقية لا تعبر عن واقع موضوعي ـ ويمضى جون ديوي حاملاً معوله ومصمماً على فرض إرادته في تشكيل عقلية أميركية مستبدة ونقرأ «لم يكن ممكناً أن تصل الصناعة الحديثة إلى ما وصلت إليه من التقدم الحالي بدون تشريع يجعل من النقابات العمالية هيئات قانونية شرعية، فالنقابة كائن خلقته الدولة أي خلقته السياسة ولا يكون له وجود إلا بفضل الهيئات التشريعية والمحاكم.

بحيث تصبح هذه النقابات رافداً يتبدى شكلياً متناقضاً مع مسيرة الاقتصاد».. ثم يقول جملة مخيفة «فهل يمكن أن يتم إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها من غير قوة مركزية تكون هادمة للديمقراطية؟» هكذا بصراحة غاشمة «تكون هادمة للديمقراطية».

وفي النهاية هو يقدم تعازيه لنا قائلاً «فالحقائق تبين لنا بوضوح وجلاء أن الأحوال الكاملة الاقتصادية منها والقانونية التي تمتلك خبرة إقامة ديمقراطية كاملة لم توجد بعد».