للتسامح دولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الذي يحض على التسامح بين البشر كمن ينثر عبير الورود بدلاً من رائحة البارود، هو الباحث عن حقيقة الإنسان الذي ولد على فطرة لا تعرف للكره سبيلاً وللتعصب مذهباً وطريقاً، فإذا بأيدينا نحن نلون ونبدل فطرة الله التي فطر الناس عليها، إنه صانع السعادة ومصدر الفرحة يلون دنيا الناس بألوان زاهية مبهجة.

إن التسامح منحة يهبها الله لأصحاب النفوس الطيبة والهمم العالية، الذين يحلقون برؤيتهم ويملكون القدرة على الإلمام بملامح المشهد من كل جوانبه دون أن يغرقوا أنفسهم في تفاصيل صغيرة تشوش فكرهم، إن التسامح منحة وقدرة ومهارة لا يجيدها إلا الواثقون من أنفسهم، العالمون بفقه الحياة وسنن الله في كونه بأننا خلقنا متباينين تبايناً يثري إعمارنا للأرض مختلفين اختلاف تكامل لا اختلاف تناحر وتنابز، أنهم أصحاب النفوس النقية الذين يرون في التعصب والفرقة مصدات تحول دون الانطلاق إلى العلا، أنهم الذين يرون أن التحدي الحقيقي في البناء لا الهدم وأن القوة الحقيقية هي قبول الآخر، وأن الإطار الإنساني هو الجامع لنا «فكلكم لآدم وآدم من تراب»، إن الذين ينشرون التسامح بين الناس هم القادرون على العفو عمن أساء إليهم، وإعطاء من منع عنهم، وإهداء الآخرين ثمار خير حاولوا هم أن يقتلعوا شجرتها، إنها طاقة فعل كبيرة تدرك حقيقة وجود الإنسان على الأرض وما هو مكلف به من إعمار وبناء.

تدافعت على فكري تلك الخواطر وتملكتني هذه المشاعر حين أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن تأسيس جائزة للتسامح، وتكريم رموزه على مستوى العالم، وإنشاء المعهد الدولي للتسامح، وهي مبادرة نوعية غير مسبوقة شأن كل المبادرات التي يطلقها سموه، هدفها خير الإنسانية أين كانت وكيف كانت بلا لون أو عرق أو عنوان، الخير كقيمة سامية في ذاتها، وعندما ينثر عبير التسامح من الإمارات، فهي بذلك متسقة مع تاريخها، سواء قبل الاتحاد حين كانت الإمارات المتصالحة، وحين أطرها الاتحاد فأصبح «البيت متوحد»، اتحاد حوله التسامح الذي هو أساسه إلى توحد؛ والتوحد يعني التطابق؛ الذي هو درجة أعلى وأقوى، لذا فإن قيادتنا الرشيدة عند طرحها تعبر عن قناعات سياسية أسست لتجربة فريدة في العالم صار التسامح هو الوجه الآخر لها، وانطلق قطار البناء من أرضها بنوره الذي أبت القيادة إلا أن ينتفع به العالم والإنسانية جمعاء، ومن ينظر إلى كم الجنسيات والأعراق التي تعيش على أرض وطننا الجامع يجد أن الإمارات هي الوجه الأبرز للتسامح حتى باتت مقصداً للفارين من أتون الكراهية وظلمتها، الراغبين في أن يعامل الإنسان كونه إنساناً، ومقامه يكون بما يقدمه للغير من صنائع الخير والعمل الجاد دون مصدات وعوائق تحول بينه وبين ذلك.

ومن خلال قراءة متأنية لحركة التاريخ ندرك من غير جهد أن التعصب والانغلاق كانا قرينا التخلف والتدهور، وكأن عدم التسامح هو الساتر الذي يحتمي به كل عاجز عن تحقيق الرفاهية لشعبه، فلا يجد بداً من تصدير عجزه لكبش فداء يجد دائماً في الآخر غاية ومقصداً، فيبدأ في نفث سمومه على من حوله، كما أنك لا تجد نموذج التسامح إلا ويصحبه الرقي والتقدم والنماء، ذلك أن التسامح يحتاج إلى قوة وثقة سواء على المستوى الفردي أو المستوى الوطني، وهو شهادة على قدرة المجتمع والدولة على الانفتاح على الآخر علمياً وفكرياً وثقافياً من منطلق الوقوف على أرض ثابتة وامتلاك رؤية واضحة يعززها تاريخ، وتراث فكري واجتماعي قادر على التعامل مع الآخرين على مبدأ المساواة أخذ وعطاء تأثيراً وتأثراً، تلك هي المعادلة المعجزة التي استطاعت الإمارات قيادة وشعباً صنعها، فصارت المضرب والمثل الشاهد على فعل التسامح في دنيا الناس منذ المؤسس الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وإخوانه مروراً بمن تربوا في مدرستهم وحملوا الراية من بعدهم.

إن القيادة الرشيدة اليوم وهي تؤسس للمعهد الدولي للتسامح تدل دلالة قاطعة على إدراكها الكامل ووعيها التام لجذور الاضطرابات التي تقع في كثير من مناطق العالم وأنها تمثل عرضاً لمرض التعصب والكراهية والانغلاق، ومهما نجحنا في إطفاء سعارها ولهيبها فإنها مرشحة لأن تشب في أي لحظة ما دامت عواملها والأسباب المحفزة لها موجودة وكامنة، كذلك فإن هذه الخطوة الكبيرة، والتي تنم عن مسؤولية دولية تجاه الإنسان في أي مكان، تحول فكر التسامح من المرحلة الأخلاقية العاطفية التي يتم تناوله من حين إلى آخر حسب الظروف الدولية إلى التأسيس العلمي والأكاديمي الذي يضمن الاستدامة، والتأصيل الفكري الذي يستند إلى قواعد ثابتة، وإطار جامع يحفظ المجتمعات والأفراد من الانزلاق إلى مستنقع التعصب والكراهية التي تصيب صاحبها بالعمى عن رؤية جوانب الاتفاق التي تجمعنا في عالم يسعنا جميعاً ولا يرى غير الاختلاف الذي يحوله إلى خلاف وبغض.

إن هذه المبادرة الشجاعة تؤكد أن الإمارات ليست فقط دولة متسامحة لكنها أسست للتسامح دولة.

Email