الشيخ راشد بن سعيد.. الزعامة السياسية المستنيرة..

ت + ت - الحجم الطبيعي

يصادف هذا الشهر، شهر أكتوبر، رحيل أحد القادة في المنطقة العربية والشرق أوسطية، بالرغم من أنه لم يتسم، برئيس دولة أو ملك مملكة وبالرغم من أن مجال حكمه لم يتعد إمارة من ضمن إمارات خليجية متعددة ومنها ما شكلت فيما بعد هذه الدولة، دولة الإمارات العربية المتحدة، التي نعيش في كنفها، والتي أصبحت محط أنظار العالم، وتهفو القلوب إليها لما وصلت إليه من ازدهار في مجالات مختلفة لم تصل إليها كثير من الدول في فترة لم تصل إلى نصف قرن من الزمن.

ومن نافلة القول إن هذا الواقع قد تحقق بسبب وجود قيادات عالية الهمة والتدبير في الإمارات، وهي التي أفضت إلى تحقيق هذا المرام، وهذه القيادات الحسنة التدبير كانت تتجسد في شخصيتين كان لدورهما الإيجابي الكبير الأثر الملحوظ فيما نشاهده اليوم من تقدم أينما نظرنا حولنا وأردنا استعراض البدايات والتحولات في مسيرة هذا البلد..

والشخصيتان القياديتان هما شخصية الشيخ زايد بن سلطان والشيخ راشد بن سعيد، رحمهما الله، وهذان القائدان رغم التباين في الأسلوب والاتجاه التي قد يتراءى للباحث الاختلاف فيها، لكن كان الاثنان تجمع بينهما مصداقية تبني المشروع التنموي والتخطيط لمثل هذه التنمية والعمل من أجلها، وتسجيل تاريخ يضعهما في مصاف قادة العالم الذين يضرب بهم المثل..

والحديث هنا في هذا المقال يتركز على إحدى الشخصيتين القياديتين وهي شخصية راشد بن سعيد بن مكتوم الذي يصادف هذا الشهر، شهر أكتوبر مرور 26 عاماً على وفاته رحمه الله وطيب ثراه.. فقد كان راشد بن سعيد متميزاً، ليس في قيادته وحدها فحسب بل أيضاً في حياته وسيرته الخاصة والعامة..

وفي رأيي أننا لو بحثنا عن الميزة في حياة الشيخ راشد، وأردنا أن نقارنها بحياة العديد من القيادات في الشرق والغرب لأضنانا البحث أن نجد له قريناً منافساً في سيرته ومسيرته.. فبالإضافة إلى البساطة الفطرية المتناهية التي كانت تسود حياة راشد بن سعيد الخاصة والعامة كما قلنا فيما سبق، كان راشد بن سعيد سياسياً محنكاً، والذين عاصروه عن قرب، وكاتب هذه السطور أحدهم، عرفوا فيه الدهاء السياسي الذي كان يجعله يبادر للوصول إلى بغيته من غير إيذاء مشاعر الطرف الذي يناوره، ومن دون أن يكتشف هذا الطرف طبيعة هذه المناورة، ومثل هذه القدرة السياسية لا يجد الباحث له قريناً إلا عند القليل من الساسة أهل السياسة..

بجانب ذلك، كان الشيخ راشد مليئا بحب بلده دبي، الحب العميق الغور الذي يجعل مصلحتها في أولوياته دون مساومة، وكان يشترط في كل مناورة ومفاوضة أن تكون لدبي مصلحة تتمشى مع تركيبتها وبنيتها الديمغرافية ومكانتها التجارية، وإذا دخل مجالاً استوجب من أن يفاوض في موضوع ذي أهمية فان أسلوب السير الحذر من غير قطع والمد الحذر من غير ارتخاء كانت لعبته التي يجيدها إجادة تامة..

وهناك أمثال كثيرة على مثل هذا الأسلوب الدبلوماسي الماهر والمرن، لا يسع المجال في هذا المقال أن نشير إليه، ويكفي راشد بن سعيد ما اعترضته من حوادث كان حيالها قوي الشكيمة منذ أن ألقى إليه والده المغفور له الشيخ سعيد بن مكتوم في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، والموقف الصلب الذي وقفه في وجه المناوئين لوالده عام 1939م، ثم صلابته في جعل دبي تحتفظ بازدهارها التجاري وتوفير ما يحتاج إليه الناس من مواد رغم ظروف الحرب القاسية وهي الحرب العالمية الثانية، حيث كان التموين لأهالي دبي ومن يفد إليها متوفراً في الأسواق وبأسعار تموينية مناسبة..

ولم تكد الحرب تضع أوزارها حتى شمّر راشد بن سعيد عن ساعده للبدء في مرحلة ازدهارية ثانية لدبي في منتصف الخمسينات، وكان حفر الخور وجعل هذا الشريان المائي المهم الذي هو الرئة التي تتنفس منها دبي، صالحاً لرسو السفن الكبيرة بعد أن كادت مداخلها أن يسدها ما يجرفه البحر من الرمال، وكان تنفيذ هذا المشروع قفزة نوعية في المنطقة الخليجية، ووصف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، حفظه الله، المشروع بانه كان بداية النهضة الثانية في دبي بعد النهضة التي وضع أساسها الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم في العام 1898 م.عندما أسس ذلك القيادي الفذ الشيخ مكتوم بن حشر، الأسواق لإدارة الجمارك والفرضة ودعوة التجار من كل البلدان المجاورة للقدوم إلى دبي وتوفير الضمان والاستقرار لهؤلاء التجار..

ولم يكد العقد الخامس من القرن الماضي يسير نحو الأفول حتى رأينا في دبي المؤسسات الخدمية المدنية والشرطية، وتأسست المحاكم المدنية ومراكز للشرطة الحديثة وإدارة البلدية ومجلسها وعمت أرجاء المدينة الكهرباء والطرق المسفلتة والمباني ذات الأدوار المتعددة وغير ذلك من المشروعات النهضوية الحديثة والكثيرة..

وفي الواقع فإننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الشيخ راشد بن سعيد بن مكتوم يقف في مكان بارز وعال بين قادة العرب الكبار في العصر الحديث، وهو كما وصفه شاه إيران محمد رضا بهلوي على لسان ذو الفقار علي بوتو زعيم باكستان، إنه إذا عد زعماء العرب البعيدو النظر فإن الشيخ راشد حاكم دبي يأتي في المقدمة..

وهذه الشهادة من زعيمين من زعماء العالم كانا في وقتهما أصحاب حول وطول تدل على أن الشيخ راشد بن سعيد لم يكن شخصية عادية أو زعيماً عادياً، بل كان قائداً متنوراً.. وعندما بلغ خبر وفاة الشيخ راشد المجتمعين في جلسة عامة للأمم المتحدة، وقف الجميع دقيقة حداد على رحيل هذا الزعيم العالمي المتنور، علماً بأن الشيخ لم يكن في العرف الرسمي والبروتوكولي، رئيس دولة، ولكنه عرف عالمياً بأنه من كبار الساسة ومن القادة الكبار..

Email