بالابتكار تحيا الشعوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن قوة الدول ومناعتها ليست فيما تملكه من مقدرات طبيعية وثروات فحسب لكن في قدرة أبنائها على تعظيم المردود من تلك الثروات أو قدراتهم على بناء الثروات وصناعتها، هنا يكونون هم مصدر الثروة وصانعوها، وهنا تشخص ثروتهم الحقيقة فيما تحويه أدمغتهم من فكر تحميه إرادة الفعل التي تجعل من الموارد الشحيحة ثروة كبيرة، وهنا تكون الحياة الحقة التي تجعل الفرد يشعر بذاته وبدوره في بناء حاضره وتهيئة مستقبله، والسؤال هل لليابان ثروة طبيعية تتميز بها، وهل لفرنسا منتج تصدره تتفرد به؟ وهل هناك محصول أو ثروة طبيعية تتميز بها بريطانيا أو إيطاليا أو ألمانيا عن غيرهم من الدول؟ الحق أن هذه الدول لا تملك ثروات طبيعية تتميز بها غير أنها تملك طاقات أبناءها وقدراتهم التي جعلت من هذه الدول قوى كبيرة، غير أن دروس التاريخ وشواهد الحضر لتؤكد كل يوم أن قوة الدول التي حققت مكانة لم تأت من ضخامة الثروات الطبيعية بقدر غزارة الإنتاج الفكري الذي يختلف شكلاً ومضموناً عما سبق والوصول به إلى نتائج أفضل، وذلك هو جوهر الابتكار بمعنى غير المألوف وغير المعتاد وبما لا يتشابه مع غيره، وهو حالة متشابكة بين التخصصات بعضها البعض أو بينها وبين البيئة المواتية المحفزة والدافعة له.

ولأن الأمر على هذا النحو فقد خطت الإمارات خطوات واثقة في سباق الريادة بتصدرها الدول المبتكرة من خلال تقدم مهم على مؤشر الابتكار العالمي لعام 2016 بعدما حلت في المرتبة الأولى عربياً، وتقدمها ست مراتب عالمياً من حيث أدائها الشامل.

ولا شك أن تلك الصدارة جاءت نتيجة لعوامل عدة عبر مقاييس محددة منها متانة البنيان الاقتصادي للمؤسسات العاملة في الدولة، والتطور المتسارع في الأسواق، كذلك الاهتمام غير المحدود بتطوير وتحديث البنية التكنولوجية والمعلوماتية تدعمه وتساعد على تطورها بيئة سياسية وتشريعية داعمة، وتلك صفحة جديدة في كتاب التميز والتطور الذي نراه كل يوم، والذي يتطلب منا كل في مكانة وعلى قدر مسؤوليته أن يجعل الابتكار طريقاً والتميز معلماً دائماً للوصول إلى الغاية الكبرى والحفاظ على مكتسبات وطن قوي قادر فاعل في محيطه الإقليمي والعالمي.

ولا شك أن البيئة المحفزة للابتكار تعني القدرة على التجديد والسعي إليه والبحث عنه، وكذلك الثقة التي يكتسبها أفراد المجتمع من الطرح وعدم التردد والخوف من الوقوع في الخطأ، باعتبار أن المحاولات حتى وإن لم تكن موفقة فلا شك أنها الطريق إلى النجاح وهي في ذاتها طرق للتعلم، وكما قال الشاعر «ومدمن الطرق للأبواب أن يلج»؛ وهو يعني الصبر والإصرار والمثابرة على تحقيق النجاح عبر الجديد وغير المعتاد، وتلك هي الثقافة التي حرصت قيادتنا الرشيدة على نشرها في ربوع الوطن، وذلك هو الاستثمار البشري الذي دأبت على تكريسه، وهذه هي الثقة التي لم تفتأ أن ترسخها في نفوس أبناء الوطن، ثم يأتي التقدير لكل صاحب طرح استفاد منه من حوله وساهم في تجويد الحياة.

ذلك أن الابتكار ليست حالة كلية لكنها أجزاء متراكبة متكاملة كريشة الفنان التي تحدد ملمحاً في الصورة ثم ملمحاً آخر حتى تكتمل روعتها بدقة وبراعة يشهد بها كل جزء منها إلى جانب الآخر كذلك قياسات الابتكار.

ومن الأهمية بمكان أن نعي أن هذا المشهد الذي يدعو إلى الزهو والفخار في بلاد نفخر بالانتماء إلى رمالها لم يتم بين يوم وليلة، لكنه جهد بذل وإرادة دفعت على مدار ثلاثة عقود حتى غدت ثقافة الابتكار والتميز حالة عامة قائمة تتعمق وتتجذر يوماً بعد يوم، فاستحقت دولتنا أن تكون النموذج الذي يطمح أبناء شعوبنا العربية إلى استنساخه، نموذج الأمل عبر العمل والحلم الذي تحول إلى واقع.

ولأن العلم بالتعلم فإن التفكير الابتكاري يأتي عبر تنشئة جيل لا يقبل بما تناله يديه أو يقع تحت عينيه لكنه يتطلع دائماً إلى استكشاف الفضاء عندما ينشغل غيره بما يجري على الأرض، جيل يبحث، يجعل من التحديات تجربة لإثبات الذات وفرصة للنجاح عندما يفضل غيره التزام السهل الممهد، جيل يلاطم الأمواج العاتية عندما يأنس غير بالسباحة في المناطق الدافئة، جيل لا يخاف من إزاحة الستائر الكثيفة ليرى العالم من حوله في الوقت الذي يدفن غيره الرأس في الرمال، معتقداً أن ذلك هو الخيار الأفضل.

إن الابتكار يأتي بالمداومة عليه والسعي الدائم إليه، كما إن مجتمعاً مبتكراً هو مجتمع حي ومتجدد، إن مجتمعاً مبتكراً هو مجتمع شاب وفتي، إن مجتمعاً مبتكراً هو مجتمع قوي ومؤثر، إن مجتمعاً مبتكراً هو مجتمع منتج وفاعل. وإذا كانت الحكمة أخبرتنا أنه ليس بالخبز وحده تحيا الشعوب، فالحق أنه بالابتكار تحيا الشعوب.

Email