تماسك الأسرة الطريق إلى الريادة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الفكرة هي الومضة التي تلمع في ذهن الفرد كي يبدأ البحث في طريق قد يطول أو يقصر ليصل إلى نقطة ما قد يتغير معها تاريخ الإنسانية، وإن الأعمال الكبيرة تبدأ بأفكار قد يدرك الإنسان كنهها وقد تمر عليه مرور الكرام، ذلك هو منطق الكون، أن جلائل الأعمال لا تولد كبيرة لكنها نفحات وقبس من نور يتم رعايته حتى يكبر ويؤثر.

وكما قال الحكيم: إن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، وإن معظم النار من مستصغر الشرر، وإن الجبال الشاهقة من أصغر الحصى، تلك هي الحكاية من البداية للنهاية، وتلك هي قوانين الحياة التي يجب القياس عليها والاهتداء بها.

ولأن الأمر على هذا النحو فإن الأمم العظيمة لم تكن كذلك لأنها تصنع أشياء معجزة، لكن لأنها نجحت في تربية أفرادها من الصغر على السعي لتحقيق جلائل الأعمال والبعد عن سفاسفها، فكان الفرد الإيجابي الصالح في ذاته والنافع لمن حوله المخلص لوطنه، وأطفال اليوم هم رجال الغد، وهم من سيكونون نواة لأسرة جديدة يربون أولادهم على ما كانوا عليه، هكذا دواليك.

ولأن الأسرة هي المكون الأساس للمجتمعات فإذا أردت أن تعرف مستقبل مجتمع فانظر إلى حال الأسرة فيه وعلاقة الأبناء بالآباء وعلاقتهم ببعضهم البعض، تدرك يقيناً مستقبل هذا الشعب.

ولأن قوة النسيج الوطني يبدأ من الأسرة، ولأن التقدم حالة كلية لها جناحان؛ جناح اقتصادي يتعلق بقوة البنية التحتية والاقتصادية للدولة وقدرتها، والآخر اجتماعي يتعلق بقدرات أبنائها ومتانة الروابط بينهم.

من هنا كان حرص القيادة على تعميق حالة التوازن في مسيرة الإمارات المظفرة منذ البدء هو الاهتمام بالأسرة في القلب من كافة الخطط التنموية وفي أحدث نسخها رؤية الإمارات 2021 وتكريس الترابط بين أفرادها باعتباره الأساس للتلاحم المجتمعي.

ومن أهم بشريات تلك الرؤية الحملة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بعنوان «أسرتنا متماسكة» 2012 «والتي أكد عند إطلاقها أن "تلاحم الأسرة وتماسكها هو الطريق الأكيد إلى تلاحم المجتمع وتماسكه.

ويجب أن نظهر للعالم الصورة الحقيقية للمجتمع الإماراتي المتمسك بالقيم والمبادئ والمحافظ على التقاليد وعمق الروابط الأسرية"، وإن هدفنا بأن نكون من أفضل الدول في العالم لن يتحقق إلا بتماسك نواة المجتمع وهي الأسرة.

وبإمعان النظر في الأهداف التي احتوتها هذه المبادرة نجد أنها لا تقع في حقيقتها في الإطار الاجتماعي بقدر تشابكها مع الإطار الوطني، وأنها البداية والمنتهى، كما أنها تعني مزيد من الوعي للحفاظ على مكتسبات الوطن والدفع به لتعظيم جوانب التنمية التي تمت لأجل الفرد والأسرة، والشاهد على ذلك ما قاله الشاعر: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت آحادا.

وفي تقديري أن التماسك الأسري لا يتوقف على كونه حالة من التواصل بين أفراده في شكلها الاجتماعي، لكنه يعني التصالح مع ثقافتنا وتراثنا وتاريخنا، التماسك الأسري يعني الوعي بما وصل إليه قطار التنمية الوطنية وأن هناك رغبة أكيدة للحفاظ عليها، يعني في وجه آخر الإيمان بصحة الدرب الذي نسير فيه، وأن هناك ترقباً للاستزادة من النبع ذاته وإن اختلفت الوسيلة التي تناسب كل عصر.

التماسك الأسري يعني الإيمان بالمشروع الوطني من كل الأجيال المتتابعة، وإن ما قام به الآباء منذ التأسيس ومن حملوا الراية من بعدهم جدير بالالتفاف حوله وبذل الروح دونه.

إنه في معناه الدقيق التواصل بين الأجيال؛ ما يعني اتساقاً مع الذات حتى وإن انفتحت العقول على العالم بحثاً عن الحكمة أينما كان مصدرها، وانفتحت قلوبنا لتقبل الآخر دون النظر للونه أو جنسه، التماسك الأسري هو الوسيلة الأهم إن لم يكن الطريق الوحيد إلى التلاحم المجتمعي، فمن لم يعتد على الشعور بالآخر والاقتراب منه بالفكر قبل الجسد في محيطه الصغير فهو بلا شك سيعجز عن ذلك في الدائرة الأوسع؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.

إنه يعني أن يظل للأسرة الدور الأهم باعتبارها المرجعية السلوكية والفكرية والنفسية الوحيدة للفرد لفترة ليست بالهينة، في فترة هي من أهم فترات حياته التي على أساسها يتشكل سلوكه.

إن أخطر ما يواجه أعظم الحضارات هو أن ينخر سوس الفرقة في جدار الأسرة لتجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: أولهما أن تهتز ككيان جامع حامٍ، ويصبح أعضاؤها كريشة في يوم شديد الريح تتمايل يمنة ويسره دون أن تملك من أمر نفسها شيئاً، أو أن تكون هي ذاتها مصدراً طارداً يدفع الفرد للبحث عن بديل آخر يملأ فراغ تركته وهي مختارة، فيقع في حبائل من لا يرحم كفريسة كثر طالبوها، وتكون العاقبة وخيمة وآثارها مؤلمة.

وعوداً على بدء، إذا كانت الأسرة أساس التلاحم المجتمعي، وإذا كان التلاحم المجتمعي الطريق إلى الريادة، إذن فإن التماسك الأسري الطريق إلى الريادة، هكذا علمنا المنطق.

 

Email